Back Home Next

 

 هل الدين ضرورة بشرية للإنسان؟    الحلقة 1 

من كتاب فيه مصادر مختلفه

 بقلم الدكتور رضا العطار

ridhaalattar@yahoo.com

 

قبل زهاء الفي سنة ظهر المؤرخ الاغريقي -  بلوتارك -  المولود عام 42 م الذي انجز التراجم الشهيرة لعظماء عصره والعصور التي سبقته. فقد كان يعيش في بيئة مختلطة مثلما كانت ثقافته مختلفة. فهو يعرف الرومان الناشئين حديثا من ناحية كما يعرف الامم القديمة التي ذهب شبابها وشاخت حضارتها مثل بابل و اشور ومصرالفراعنة ونحوها. فهو رأى بيئة تختلف كل الاختلاف عن البيئة التي نعيش نحن فيها اليوم،  لكن مع هذا الاختلاف ومع الفاصل الزمني نجده يقول هذه العبارة التالية، وكأنه قد كتبها لنا.

 

  (من الممكن ان نجد مدنا بلا اسوار وبلا ملوك وبلا ثروة وبلا اداب وبلا مسارح

ولكن لم نجد قط مدينة بلا معبد،  يمارس فيه الانسان العبادة).

 

فإنما التفتنا الان نجد مصداق هذه العبارة التي قالها ذلك الاغريقي العظيم. والعبارة ترديد للمثل الانجليزي المعروف – الانسان مجبل على الدين - .

 

من يعترض هنا بان في العالم اليوم اناس لا يعرفون الدين اي انهم يعيشون في حالة بدائية لم تبلغ بهم بعد معرفة الدين. ومع ان هذا الاعتراض يدعو الى الشك من حيث اننا نجهل الانسان في حالته البدائية ولا نعرف الا اليسير من عقائده فانه مع ذلك لا ينفي قول بلوتارك وهو انه لم ير مدينة تخلو من الدين. فهو لم يقل انه لم ير انسانا خلوا من الدين وانما قال ان كل مدينة في العالم مهما كانت خلوا من الحضارة فهي لا تخلو من الدين.

 

معنى هذا ان الدين هو طور من اطوار الرقي البشري لا نستطيع تحديده بالزمن وانما نقول فيه انه عندما بلغ الانسان درجة من الرقي وبدأ يبني المدينة بدأ يدرك ايضا معنى الدين. وبعبارة اوضح نقول انه متى خرج الانسان من معيشة الغابة والصيد ودخل في عصر الاجتماع وتاليف الحضارة اتجه ذهنه نحو الايمان بعقائد يتكلف من اجلها تكاليف تتجاوز الراحة الجسمية. فهو يجهد نفسه او يجاهدها من اجل الطمأنينة الروحية.

 

 

ويمكن القول ان الدين حديث وقديم في الانسان. ورغم هذا التناقض،  فهو قديم من حيث انه كامن في الحياة وهو جديد من حيث ظهوره. انه اشبه بالثمرة الكامنة في الشجرة قبل ان يدرك وقت الاثمار. وهو في ذلك كالعواطف الانسانية الراقية التي تجد الان بذورها في الشهوات. شهواتننا وشهوات الحيوان. فنحن نحس لعاطفة الجمال وعاطفة الرحمة ونستطيع ان نعود بهاتين العاطفتين الانسانيتين الى الشهوات الحيوانية الاولى فنقول ان عاطفة الجمال نشأت من الشهوة الجنسية وان عاطفة الرحمة انحدرت من شهوة الانانية. فعواطفنا الراقية قديمة من حيث نشوئها لكنها جديدة من حيث ظهورها في الانسان. كذلك الدين هو ظاهرة انسانية جديدة ولكنه قديم كامن في الطبيعة البشرية.

 

ولذلك اعتقد ان البحث عن حقيقة الدين هو موضوع سيكولوجي يتعلق بالاختبار النفسي. فنحن عندما نعترف باحدى العقائد الدينية او ننكرها لا نحتاج الى رواية تاريخية لاثباتها او نفيها وانما نحتاج الى ان نسأل انفسنا على مدى ملائمة هذه العقيدة لنفسيتنا،  فان وجدناها كذلك التزمنا بها وعملنا على نهجها. ولذا يجب ان نستعين على فهم الدين بالفلسفة والسيكولوجية بل بالعلوم الطبيعية نفسها لكي نقف على حقيقة نفوسنا اكثر مما نعتمد على رواية من التاريخ.  

 

اننا الان نعيش في اضطراب ذهني كبير اذا قيس حالنا بما كان عليه اجدادنا. وهذا الاضطراب قد تناول افكارنا السياسية كما تناول افكارنا الدينية. فنحن في السياسة نشعر بضرورة تقرير المصير لو وجدنا ادارتنا سلطة  مستبدة،  وكذلك في الدين نحب ان نؤمن به بأستقلالية،  لا ان نؤمن به لان رواة التاريخ قالوا كذا.

من المعقول ان نكبّر من شان – تقرير المصير – في الاخلاق والسياسة والاجتماع حتى اذا بلغنا الدين احطناه  بسياج محكم من العقيدة لا يتزعزع.

 

هذا الاحساس نفسه هو دليل على اننا نتشوق الى الدين واننا نريد ان نطمئن ونستقر الى عقيدة تأتلف بها شخصيتنا مع الكون ونسكن اليه. اي ان في نفس كل منا صوفية تنزع به الى ايجاد علاقة كونية لا يطالبنا بها احد ولا يضطرنا اليها قاهر. ولكن نفوسنا تنزع اليها وتحتم علينا التفكير فيها. فالدين هو طبيعة نفوسنا.

 

ان الحضارة الميكانيكية قد اهملتنا القدرة على الطبيعة وهي ايضا قد صبغت افكارنا بصبغة ميكانيكية. فالانسان الذي يلازم الآلات ويحوط بها قد ينتهي بان يظن نفسه آلة. ثم ان الاكتشافات العلمية قد اضعفت ثقتنا بالرواية التاريخية حتى اصبح الدين في مركز المدافع بعد ان كان في موقع المهاجم،  وانتهينا من كل ذلك الى حالة القلق التي نحن فيها الان.

 

واذا تغلب النظر الآلي للحياة على النظر الروحي اي اذا تغلبت المادية على الصوفية. كان في ذلك خراب الاخلاق. وعندئذ لا يمنع سلطان غاشم ان يستعمل غازات سامة لقتل شعبه. ومثل هذا العمل يجوز مع النظر المادي وليس ما يمنعه اصلا. ذلك لان الاخلاق اذا لم تستند الى صوفية دينية و تتجاوز منطق العقل وترتفع،  لم نصل الى ما نسميه البصيرة، و لم يعد لها ما تستند اليه سوى المادية،  وهذه لا تعرف سوى  الانانية الذاتية.

 

ولكن حتى هنا لا تكون الاخلاق هي الشئ الخطير الذي يستدعي منا البحث عن الدين والاهتداء الى حقيقته. اقول هذا واني لا اتغاضى الضرر العظيم الذي قد يحدثه النظر المادي للاخلاق. ان اساس الاخلاق يجب ان يتجاوز الفائدة الفردية.

 

لكن الشئ الخطير الذي يشعرني حاجتي الى الدين هو تزعزع الشخصية. وشعوري باني اذا لم انظر نظرا صوفيا للكون،  واذا لم اتجاوز عقلي وانال مرحلة البصيرة،  سأضل ضلالا عظيما واجدني غريبا عن الكون لا تربطني به اية رابطة. فانا اشعر في داخلي انني اريد ان استقر على علاقة حسنة بيني وبين هذا الوجود. ومثل هذه العلاقة لن تتحقق الا اذا نظرت نظرة دينية صوفية اليه،  استعين فيه ببصيرتي على عقلي اذا لم يؤاتيني عقلي على الاهتداء الى الحقيقة.  

 

الى الحلقة القادمة 

  

Back Home NextBack to Home go to top of page