Back Home Next 

سلمان الفارسي، الصحابي الجليل، من هو ؟

(شخصيات غير قلقلة في الاسلام) لهادي العلوي

 بقلم د. رضا العطار مع التصرف

alattataronline.com

 

 اسم سلمان الفارسي الاصلي (روزيه) واصفهان منشؤه الاكثر ترجيحا عند مؤرخي الاسلام، ومسقط راسه منها في ناحية (جيان)، في الامبراطورية الساسانية، زرادشتي الهوى. وقيل عنه انه من سلالة ملوك فارس القدماء، عُرف عند العراقيين قديما باسم سلمان باك. ونظرا الى انه كان كالسيد المسيح (حصورا) اي لا ياتي النساء، وهو المتداول عنه لدى العوام، سمّي سلمان باك اي الطاهر.


هاجر روزيه من موطنه في ظروف غامضة واتجه الى الغرب فمرّ بالموصل واستقر في الشام – وكان فيما يبدو في اول صباه – فانضم هناك الى دير متنصرا على يد راهب. وخدم الدير والراهب مدة حتى مات الراهب – وكان قد اطلع على امور منه تدل على عدم الامانة – اذ كان الراهب يجمع الصدقات باسم الدير ثم يكتنزها لنفسه ولا يوزع منها على فقراء المؤمنين – فاخبر روزيه اهل الدير بجلية امره ودلهم على الصناديق التي كانت تحتوي على المال، فكشفوا عنها فوجدوها ملأى بالذهب - - فنبشوا الراهب وصلبوه ثم قاموا يرجمونه بالحجر - - - وجاؤوا برجل آخر ليخلفه في رئاسة الدير – يقول
عنه سلمان فيما بعد انه كان من فضلاء القوم.

وعزز هذا الراهب ايمان روزيه المسيحي – فاستمر معه في خدمة الدير حتى توفي – فاوصى به الى راهب آخر في نصيبيين، فكان كصاحبه، وعندما مات انتقل الى ديرعمورية. في هذه المرة اخذ روزيه يشتغل لنفسه الى جانب خدمته للدير – فصارت لديه بعض الماشية والغنم - - ثم توجه الى الحجاز مع بني كلب.


ان تنقل روزيه بين عدة مطارح يرجع الى بحثه عن مجالات لخدمة الفقراء عن طريق الاديرة ويستفاد من حكايته هذه انه كان معنيا بمعرفة من سيشتغل عنده بعد الصدمة التي سببها له الراهب الاول. ويمكن ان يكون قد تنقل فعلا بين هذه الاماكن بحثا عن الامناء من رجال الدين ذووي النوايا النقية، هدفهم خدمة رعاياهم.

يقول مؤرخو سلمان ان دافع خروجه من موطنه هو البحث عن الدين الحق – وهم يربطون بين هذا الدافع وظهور النبي محمد بطريقة يفهم منها ان السماء حركت الفتى في اتجاه البحث عنه – وان المسيحية لم ترو غليله، فهجرها ليبحث عن ذلك السر الالهي الذي قد تكون السماء اعدته لموعد جديد مع البشر - - لكن روزيه امضى ايامه السابقة لحلوله في الحجاز وهو يقوم بمهام دينية ضمن مؤسسة دينية كانت في اوج النشاط والازدهار – فليس هناك ما يدعو الى تركها ليواصل الرحلة في بلاد مجهولة – ينبغي في الواقع ان نفهم من هذا الانقطاع بعد عمورية،  ان روزيه قد كبر ونضج وصارت همته ابعد من مدى الخدمة اليومية في الاديرة – ويفترض انه كان فد سمع في ذلك الحين بظهور نبي عربي في الحجاز، فعزم على التوجه اليه.

بعد الوصول الى المدينة توجه روزيه الى النبي الموعود (محمد) واعلن اسلامه على يديه. وفي ذلك الوقت غيّر النبي الكريم اسمه من روزيه الى سلمان جريا على عادته مع الاشخاص الذين ياتونه لاعلان اسلامهم حاملين اسماء غريبة او غير مستساغة – وقد نُسي اسمه الاصلي بعد اشتهاره باسمه ولقبه الجديدين (سلمان الفارسي). وحاول اتباع الامام علي بن ابي طالب تسميته سلمان المحمدي لكن الاسم لم يتعمم – وتقول المصادر الشيعية انه اسلم في السنة الاولى للهجرة – ويراد من هذا التبكير اعطاء احد الاركان الاربعة، وهم كلهم من اوائل المسلمين. يبرز اسمه في معركة الخندق (5 هجرية) وكان قد اشار على النبي لمواجهة الحصار بان يحفر الخندق حول المدينة – وكان سلمان يعرف هذا الشكل من التحصينات في وطنه الآصلي القديم والتي كانت غير المعروفة في الجزيرة العربية.  

كان روزيه عند وصوله الى يثرب والتحاقه بالنبي محمد يحمل اشياء هي التي القت به الى ذلك المكان النائي عن موطنه. ان هذا ما يتأكد بالعلاقة الاستثنائية التي جمعت بين الرجلين وتمثلت في لقاءات متكررة كانت تتم بينهما على انفراد وتستمر ساعات طويلة.


ويذكر ابو نعيم في (حلية الاولياء) عن ابي درداء الذي كان متآخيا مع سلمان، ان (رسول الله اذا خلا بسلمان ليلا لم يبغ احدا غيره) ويضيف : ( كان لسلمان مجلس من رسول الله ينفرد به في الليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله) – والضمير في (يغلبنا) عائد الى زوجات النبي ! 

ان ما كان يجري في هذه الجلسات بقى في عداد الاسرار وقبل الخوض في ذلك نود ان نلم بمسألة اللغة – اذ ان روزيه عندما خرج من بلاده لم يكن يحسن العربية – كما ان الاماكن التي اشتغل فيها بعد تنصره كانت تستعمل اللغة السريانية – ويقول مؤرخو سلمان ان عربيته كانت ضعيفة وانه اذا تكلم لا يكاد يُفهم – وكان يلزم للتفاهم في جلسات سرية طويلة اداة توصيل كافية لاستقصاء امور كبرى من تلك التي لا بد انها قد اثيرت في الجلسات
.

 
في هذه العلاقة الاستثنائية بين محمد وروزيه يمكن تلمس الدور المبكر الذي نهض به العنصر الفارسي في الدعوة المحمدية. يجب ان نضع في الحساب ان روزيه قدم من موطن الحضارة الساسانية والحركة الزرادشتية من انو شروان وخلفائه - - - ويروي ابن عساكر عن علي بن ابي طالب قوله عن سلمان انه (ادرك علم الاولين والاخرين. من لكم بلقمان الحكيم)

ويشير ذلك الى تفرد سلمان بمعرفة لم تكن لدى المسلمين العرب، هي على الارجح ما تحصله في موطنه ومن رحلاته في مطارح المسيحية السريانية، وهنا يقول ابن عبد البر:  (كان سلمان صاحب الكتابين اي بمعنة الانجيل والقران - - -) وهذا مفهوم تماما، فلا شك في انه تبحر في دراسة الاناجيل ايام الاديرة حيث كانت النسطورية تغطي بنشاطها ما بين ايران والعراق وكردستان والجزيرة وشمال بلاد الشام - - - معنى ذلك ان تكون لسلمان ثقافة متميزة عن بقية اصحابه المسلمين وارد في ضوء الحقائق اعلاه - - وقد وردتنا شذرات تدل على عقلية فاحصة ربما اتصلت بخلفية معرفية معينة. ومن لوامع ما يؤثر عنه رسالته الجوابية الى ابي الدرداء – وكان ابو الدرداء من اهل المدينة – الانصار – وقد اخاه النبي مع سلمان ضمن طريقته في المؤاخاة بين مسلمي المدينة والمهاجرين اليها. واشتهر ابو الدرداء بدراسته للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وهو معدود في علماء الصحابة وكان ينطق بحكم مستقاة من الاسفار- - –

 

وقد جمع ابو الدرداء بين مسلك تدين فاقع مع رغبة شديدة في الحياة الدنيا، طبقا للمثل السائد، (الاكل مع معاوية  ادسم، والصلاة خلف علي أتم) فكان يقبض من معاوية بعد انفراده بالخلافة، وجاوره في الشام حتى مات وقبره معروف في قلعة دمشق. وفي سياق شخصيته هذه كتب ابن درداء الى سلمان رسالة يدعوه فيها الى الرحيل لبيت المقدس حتى يحظى بثواب الموت فيه، فكان رد سلمان :  (ان الارض لا تقدس احدا، وانما يقدس كل انسان عمله !)   

ينقل الطبري : وفي اخبار فتح المدائن حين عبر المسلمون على ظهور الخيل، ان سلمان علق على هذا الاقتحام الصعب بقوله :   (الاسلام جديد. ذلك والله لهم البحور كما ذلل لهم البر) - - - 
 ويتداول المسلمون حكمة تقول على لسان علي بن ابي طالب : ( اذا اقبلت الدنيا على احد اعرته محاسن غيره، وان ادبرت عنه سلبته محاسن نفسه ) - - - وهذا المعنى يرد بتعبير آخر في مثل منظوم :

 وان ادبرت، بال الحمار على الفهد

 

إن اقبلت، باض الحمام على الوتد


والاقبال والادبار سيرتان متبادلتان عنده – وهم يختلفون في مصدرهما فينسبها اهل الدين الى الفعل الالهي، بينما يربطها الفكر العادي بتقلبات الدهر- وهي فكرة جاهلية تقف وراء تسميتهم للدولة - باعتبارها كيانا غير دائم بل متداولا بين الناس.

وبصرف النظر عن مسئلة المصدر الفاعل هنا فان سلمان يدل على تفهم لجدلية الاقبال  الجديد بما تتضمنه من خصوصية قوة تجعل اهل الجديد قادرين على التحكم بحركة تاريخهم بثقة راسخة تصل الى حد اقتحام الانهار الكبرى على ظهور الخيل – وهي نفسها تلك القوة التي تجعل الحمامة تبيض على وتد فلا تسقط البيضة.


لكن سلمان لم يشتمل على شخصية مثقف – ولا مجال للاعتقاد بحصول تركيز معرفي في الوسط السيرياني الذي اشتغل فيه قبل الاسلام. ونحن نضع في الاعتبار ان روزيه لم يكن مهموما بالبحث عن الحقائق –  فما كان يستولي عليه هو مسألة العدل في الحياة العملية للناس – وهذه لا تحتاج الى البعد الثقافي –  ويمكن الاستنتاج من مجمل سيرته وما اكتنفه من اوضاع وتوجهات انه بقى اكثر تاثرا بالوسط المزدكي في موطنه الاول منه بالوسط السيرياني اللاحق – هذا (العلم) الذي وصف به ووصل الينا في الشذرات هو اقرب الى الوعي الشخصي لقائد يمتلك من قوة الذهن ما يتفق / او يستدعيه /  مع كفاحه الاجتماعي والسياسي.

ليس لدينا تفاصيل عن نشاطات سلمان بعد التحاقه بالاسلام سوى خطته لتحصين المدينة بالخندق – وكان قد اشترك في جميع المعارك في عهد النبوة ثم في معارك فتح العراق على عهدي الشيخين ابو بكر وعمر – ولم تذكر له مآثر مذكورة في الحروب لانه لم يكن معدودا في المقاتلين – ولا شك في ان تاثيره اكبر في التشكيلة الايديولوجية الاجتماعية للاسلام الا ان هذا التاثير مدموج في العناصر الساسانية والمزدكية والفارسية عموما والتي تحتويها مصادر الاسلام الاول : الكتاب والسنة، ولن تفيدنا في شئ يخص سلمان، لان التقاليد الفارسية كانت مفتوحة لعرب الجاهلية –


سلمان الفارسي هو احد الاركان الاربعة  للصحابة الكبار الذين انحازوا الى علي بن ابي طالب، فكانوا معه، هم المؤسسين الاوائل للتشيع وهم ابوذر الغفاري وعمار بن ياسر ويختلفون على الرابع فيذكر بعضم المقداد. بن عمرو  وبعضهم حذيقة بن اليمان – ولهذا الاختلاف في الرابع والاتفاق على الثلاثة دلالة تتصل بشخصية المقداد وحذيقة – ذلك ان المقداد مع شدة موالاته للامام علي كان معدودا من اغنياء الصحابة الذين استفادوا من عوائد الفتوحات. – اما حذيقة فقد انهمك في ادارة البلدان المفتوحة الى حدود يمكن ان تكون شغلته عن متابعة قضيته المشتركة مع الامام علي بنفس المستوى الذي كان عليه سلمان وابو ذر وعمار. هذا مع كونه حذيقة لم يؤثر عنه تمسك بالفقر يضارع مع ما عرف به الثلاثة وانه لم يشتهر بالغنى ايضا.

وهكذا يسلم الركنان ابو ذر وسلمان من اي شائبة تشكك في مسلكهما ام اختلاف على ركنيتها – وهذه الدقة في فرز خصال ومواقف الخمسة تسجل لسلمان وابي ذر مبدئية خاصة – وهي التي ظهرت على مستوى الالتزام الشخصي بالمبادئ من جانب الركنين وتمثل ذلك في امتناعهما عن التملك بعد تدفق عوائد الفتوحات على الصحابة الذين اصبحوا اثرياء بعد انتصار دعوتهم، مكرسين بذلك سنة مطردة في الحركات الاجتماعية التي تنتهي الى اقامة دولة مركزية / مع اختلاف الايديولوجيات ومراحل التاريخ والمناشئ الطبقية للقادة - - - ونقف بين سلمان وابي ذر على تطابق شبه كامل في مجمل القضايا التي انطرحت في الصراع وتحكمت من ثم في نشاطهما الاجتماعي والسياسي الذي تدامجت فيه خيارات الموقف السياسي مع المسلك الشخصي. فكلاهما رجح الفقر على الغنى رغم الاغراء الشديد.

لم يتخذ احدهما قصرا لسكناه بل اقاموا في بيوت عادية مما كان لعامة اهل المدينة قبل الاسلام، يبنونه بالاجر والجص.  ولم يتزوج سلمان كما هو ابو ذر باكثر من زوجة واحدة – ولم تكن لاي منهما (جواري) للتسرّي – وانما كان لكل منهما خادمة مدمجة في العائلة تساعدهم في شؤون المنزل – وكان سلمان يشاطرها العمل – فاذا ارسلها في حاجة الى السوق وهو في المنزل تولى اعداد العجين بدلا منها حتى لا يجتمع عليها واجبان


ويطرح مسلك سلمان والغفاري مفارقة التأصل الاجتماعي في تابع بالقياس الى المتبوع – ذلك ان امامهما علي بن ابي طالب خالفهما في التسري وتعدد الزوجات مع بقائه ملتزما بالدفاع عن مبادئه العامة. بعد الخلافة تحقيقا لمذهبه بالزهد كالتزام للحاكم دون المحكوم – لكن سلمان وابا ذر – فيما يبدو – اعتبروا الالتزام شاملا للقادة خارج السلطة ولم يخصصوه بقترة الحكم – ولدينا روايات عن علي بن ابي طالب يتحدث فيها عن خصوصيات سلمان وابي ذر نقف في بعضها على التصريح بشعوره بالضعف ازاءهما. 


بعد وفاة محمد (ص) وبيعة السقيفة – تكرس الانشقاق الاول في الاسلام -  كان انصار علي بن ابي طالب اقلية، وقد قام كل من سلمة زوجة النبي وام ايمن زوجة زيد بن حارثة وفضة خادمة فاطمة الزهراء واولادها الحسن والحسين وعبد الله بن العباس وسلمان وعمار والمقداد وابو ذر والحذيقة بدفن فاطمة الزهراء سرا، حسب وصيتها،  لئلا يصلي عليها ابو بكر.

 
وفي رواية للكشي،  خطب سلمان بعد بيعة السقيفة،  معترضا على خلافة ابي بكر فقال : (اما والله لو وليتموها عليا، لأكلتم من فوقكم ومن تحت ارجلكم)

لكن بعد ان مرت ازمة السقيفة واخذت جيوش الفتح في التحرك، انضم سلمان الى جيش الفتح العراقي ودخل مع الفاتحين الى عاصمة الامبراطورية الساسانية طيسفون التي سماها العرب (المدائن) ومن ذلك الوقت لم يظهر نشاط لسلمان مع مجموعته الشيعية.   

لقد استمر سكوت سلمان بعد الخليفة عمر، فلم يأتنا عنه خبر في الصراع الذي استمر بعد ذلك،  واداره زميلاه ابو ذر وعمار علنا وامامهم الامام علي سرا حتى نهايته الدامية. - - - هنا نقف على رواية للماوردي في (نصيحة الملوك) تقول ان ابا بكر نهى سلمان عن الكلام لئلا يختلف الصحابة - - وهناك رواية في (الاستيعاب) تقول : ان سلمان وصهيب وبلال الحبشي اظهروا انزعاجهم من العفو عن ابي سفيان في فتح مكة، فرد عليهم ابو بكر مدافعا عن ابي سفيان بوصفه (رجل قريش وسيدها) - - ولا مناص من الاستنتاج انه اضطر الى الانصياع لامر ابي بكر لانه غريب وليس له عشيرة تنصره.

 احدى المحطات الهامة في تاريخ سلمان الفارسي، هي ولاية المدائن،  وقد اختاره عمر بن الخطاب لها بعد فتحها وتقبلها هو رغم انه لا يحمل مزاج سلطة.
وفي تفسير قرار عمر يلوح لنا بعض الاوجه الباعثة عليه – هناك احتمال ان عمر قد تعمد ابعاده عن الحجاز لاضعاف جماعة علي بن ابي طالب - - - .وكانت المدائن قد فقدت اهميتها بعد انهيار الامبراطورية الساسانية وانتقال مركز الثقل العراقي الى الكوفة والبصرة فور تمصيرهما – وفي اختيار سلمان لولايتها يمكن لعمر ان يكون قد خضع ايضا لهاجس شخصي بتصور هذه المقارنة التي سيحكم فيها المدائن رجل من عامة الفرس بدلا من امبراطورها الكسروي - - ولعمر مبادرات كهذه تبدو كهوامش ظريفة على سلوكه الاصلي كرجل دولة وسياسي حازم. - - - كما وعين عمر عمار بن ياسر على الكوفة واليا،  لكي يجرب تطبيق آية المستضعفين ثم عزله عنها بعد وقت قصير.


اما من جهة سلمان – فان قبوله ان يكون واليا خلافا لمزاجه يمكن تفسيره بمحاولة منه لتجربة حكم يصوغه وفقا لثوابته المبدئية – وذلك افضل من بقائه صامتا في مركز الخلافة في الحجاز.

وصف المسعودي في (مروج الذهب) (باب خلافة عمر) سلمان الفارسي وهو على المدائن فقال :

(يلبس الصوف ويركب الحمار ببرذعة بغير اكاف ويأكل خبز الشعير). 


ويجمع مؤرخوه على جملة سياساته وسلوكياته في الولاية ضمن الخطوط التالية :
- كان راتب سلمان السنوي عن ولايته 5000 درهم، كان يقبضه ثم يوزعه على المحتاجين لانه التزم بالعيش من عمل اليد،  انصياعا لتوجيه نبوي - - وكان يستفيد من وقت الفراغ فيعمل في سف الخوص لصنع السلال، مما كان قد تعلمه ابان وجوده في المدينة، ويبيعها فيعتاش بثمنها. وفراغ سلمان في الولاية كثير لانها تشغل جزءا من نهاره فقط – وهو قليل العبادة لا يزيد كثيرا عن الفرائض. ولم تكن لديه مهام اخرى خارج ادارة المدينة.  وبالطبع، ولا ساعات مخصصة للهو والتسلية.

لم ينزل سلمان في القصر الساساني الشاهق الفخم (ايوان كسر)  بل في مسكن عادي مع عامة اهل المدائن - - وقد فتح سلمان القصر للعموم، بعد ان كان افرغ من محتوياته التي قسمها عمر على قواده الفاتحين، كغنائم حرب. - - وكان الناس يستعملون القصر لاغراضهم واستفاد منه رعاة الغنم – فكانوا يبيتون فيه او يستريحون مع اغنامهم.


والجدير بالذكر ان خليفة المسلمين الامام علي عندما حول مركز خلافته من الحجاز الى الكوفة قد نزل في مسكن مماثل ولم يسكن في دار الامارة الا انه ابقى الدار مغلقة حتى اعيد فتحها بعد انتهاء خلافته ومجيء الوالي الاموي الذي اتخذها مسكنا له.


وكان مقر سلمان الرسمي في المسجد، وهو ايضا مقر علي بن ابي طالب عليه السلام.                                     
لقد الغى الصحابي الجليل سلمان شكليات الولاية مبتدءا بنفسه، وكان في ملبسه ووسيلة نقله لا يختلف عن عامة الناس، ولم يكن يخرج في موكب وانما يمشي منفردا او مصحوبا بغيره من اعوان واصدقاء بدون حرس – وقد عاشت المدائن في ظله آمنة لا يخاف اهلها من عدوان السلطة او عدوان بعضهم على بعض – وكان تحت امرته ثلاثون من اهل الديوان، جمعتهم به علاقة احترام متبادل : عدم سطوة من القائد والتزام طوعي من المقودين – بذلك تكون هذه المدينة الكسروية قد جربت وهي قريبة عهد بالارهاب الامبراطوري.  طريقة حكم كالتي تحدث عنها الفيلسوف الصيني لاوتسه في كتاب التاو :  (حاكم يقود وهو في مؤخرة الشعب ويدير شؤونهم وهو تحتهم).

وتوفر حالة الانسجام التي سادت المدائن في تلك الولاية دليل تاريخي على صدق القاعدة التي ترجع الى كونفوشيوس، وقد توسع فيها مفكرو الاسلام. والقائلة ان اخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم. فان كان عادلا مستقيما، عدلوا واستقاموا، وان جار وسرق جاروا هم وسرقوا.  لكن هذه السياسة لم تعجب عمر بن الخطاب، وكان سلمان من جهته يشعر انه يتجاوز الاصول المسموح بها في دولة عمر - - وفي (مرآة الزمان) يتحدث سلمان عن سلوكه في الولاية ( لو نهاني عمر، ماانتهيت)


كان سلمان يرى ان اكل الشعير والعمل في الخوص والاستغناء عن لذائذ المطعم والمشرب لاحب الى الله عز وجل واقرب للتقوى – وهو يقول :  رايت رسول الله اذا اصاب الشعير اكله وفرح به ولم يسخط، بل كان يعتقد اما التذلل في طاعة الله احب اليّه  من التعزز في معصية الله - - ويضيف، وقد علمت ان رسول الله كان يتآلف الناس ويتقرب منهم ويتقربون منه في نبوته وسلطانه حتى كان (مثل) بعضهم في الدنو منهم وقد كان ياكل الجشب ويلبس الخشن وكان الناس عندهم قريشيّهم وعربيّهم وابيضهم واسودهم سواء في الدين، فأشهد اني سمعته يقول من ولىّ ضيعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل، لقي عليه غضب الله، فكيف حال من ولىّ الامة بعد رسول الله الذي قال :  (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).   

لقد اشتد الخلاف بين عمر و سلمان الفارسي،  يتعلق في كيفية ادارة محافظة المدائن،  (الاسم البديل لطيسفون، عاصمة الامبراطورية الساسانية) بعد سقوطها نتيجة الفتح الاسلامي. فعمر يريد لدولته مظاهر الهيبة، وسلمان يريدها على عكس ذلك،


 وهذه المعادلة الحرجة يقوم عليها المشروع السياسي برمته. وقد اتجه لتشكيل بيروقراطية للولايات تتأل من الوالي ووجوه الناس وبين في تعليماته للولات ان المسلم العادي يكفيه ان يُحكم بالعدل والانصاف ليس من اللازم ان تكون له مشاركة في الحكم.


ويتفرع على خطة عمر موضوع (هيبة الدولة) وكان يريدها – ولو في حدود اللقاحية التي لم يكن بوسعه ان يكسرها لاقامة دولة مستبدة، لم يتعودها العرب.  لذلك لما بلغ عمر ما كان يقوم به معاوية في الشام – وكان حينذاك واليه عليها – من الاسراف في مظاهر السلطة والابهة الديوانية.  كتب اليه يحاسبه، فرد عليه معاوية بانهم مجاورون لدولة الروم ويلزم ان يظهروا امامهم بمظهر قوة - - فأقرأه عمر عليها.


ولما اراد عمار بن ياسر ان يسير في الكوفة بسيرة سلمان في المدائن، عزله عنها. لان الكوفة صارت حاضرة العراق والمشرق – ولا يصح ان تدار بدون سلطة كما تدار مدينة فاقدة الاهمية.

ويبدو على اي حال – ان الخلاف لم يحسم بين الخليفة عمر والوالي سلمان - - وثمت غموض يلف مصير سلمان وولايته، وقد تخبط فيه المؤرخون،  فلم يصلوا الى قرار نهائي بخصوصه.  تقول الرواية ان عمر عين حذيقة بن اليمان – لكن الثابت ان حذيقة مات في المدائن واليا عليها – وقبره معروف حتى اليوم فيها وعليه مسجد كبير يضمه مع ضريح سلمان حسب الشائع عند العراقيين. وكانت وفاة حذيقة سنة 36 للهجرة بعد ايام من وصول خبر بيعة علي بن ابي طالب خليفة للمسلمين - - - اما وفاة سلمان فمختلف عليها - - اما بخصوص مكان الوفاة – اذا قبلنا ان تكون المدائن – فهو ان المدائن كان لها واليان في وقت واحد - - ووفاة حذيقة معروف اما وفاة سلمان، يأتي الخبر مبتور بدون اي متعلقات، نستأنس بها لضبط الحدث.

ان الاختلاف في تعيين سنة وفاة سلمان مع انقطاع اخباره منذ خلافة عثمان وانعدام التفاصيل المتعلقة بخبر الوفاة ترجح الى الروايات التي تحدثت عن عودته الى اصفهان ووفاته هناك. - - ويضع ذلك مصير ولايته على المدائن في احتمالين : 


ان يكون عمر قد عزله عنها او ان يكون اعتزالها بعد اشتد ضغط عمر عليه.  لكن مصادر الادارة العمرية لا تنص على شئ من ذلك – وهي دقيقة ومضبوطة الى حد كبير بحيث لا يرد الا القليل من الاختلاف في مصائر الولاة والولايات في ذلك العهد -  فلو حدث عزل بقرار رسمي او اعتزال بقرار شخصي لنصت عليه المصادر.

وتقديري ان سلمان قد ارتأى ترك الولاية ومغادرة المدائن في صمت.  وان ذلك حدث مع وجود حذيقة في المدينة بحيث يكون قد استلم الولاية من سلمان ثم جرى تثبيته فيها بقرار من عمر - - هذا هو الحل الوحيد المعقول للمصير الغامض لروزيه الاصفهاني.


لقد كانت الثمرة المكتملة لرحلة ذلك الغريب وتقلبه في الامصار والاديان وبين الاديرة والمساجد هي المساهمة الفارسية المبكرة في تأسيس الاسلام.
 

اما احلامه في مجتمع الفقراء – فقد تبددت بدون شك – ويغلب على ظني انه استقر في موطنه الاصلي ليمضي ما تبقلى من ايامه في التأمل والعبادة في المسجد الذي بناه لنفسه هناك - - وقد لا يكون عاش طويلا بعد العودة – وقد تكون الرواية القائلة بوفاته زمن عمر هي الاجدر بالقبول.    

حكايات عن سلمان  : يتكرر عند مؤرخيه انه عاش 250 سنة - - وقالوا انه لم يكن له بيت في المدائن، فكان يبيت تحت الاشجار او في ظلال الجدران - - وحينما قال له رجل : ألا تبني لك بيتا ؟ قال : مالي فيه حاجة فما زال به الرجل حتى قال له – انا ابني لك البيت الذي يوافقك. صفه لي ! قال : ابني لك بيتا اذا انت قمت فيه اصاب راسك سقفه واذا انت مددت فيه رجليك اصابها الجدار  قال نعم – فبنى له بيتا بهذه الصفة، وهي اشبه بزنزانة انفرادية.

وفي خبر آخر ان حذيقة قال له : الا تبني لك بيتا ؟ قال لم تجعلني مالكا ؟ وتجعل لي دارا مثل بيتك الذي في المدائن - - - ولهذا الخبر اساس فلا بد ان اصحابه واعوانه في المدائن ارادوه ان يقيم في منزل خاص به كأمير وهو متمسك بالاقامة في منزل عادي من منازل عامة الناس - - وحديثه مع حذيقة يؤكد ما اوردناه عن الاختلاف بينه بين المقداد في المرتبة – فسلمان كان يعيّره بقصره المنيف في المدائن.

واختص سلمان بمعجزات ليست لغيره من الاركان الاربعة، وهم اقرب الصحابة للنبي محمد - - - فقد كان كالمسيح يعلم ما يجري في البيوت وتنبأ بمذبحة كربلاء يوم عاشوراء قبل حدوثها باعوام كثيرة، وهو يمر بها في طريقه الى المدائن.


وعن موته رووا ان رسول الله قال له : اذا حضرتك الوفاة حضر اقوام يجدون السريح ولا يأكلون الطبيخ، وهذه اشارة الى الملائكة - - لذلك عندما احتضر، اخرج صرّة فيها مسك كان النبي قد اهداها اليه – فنضحها من حوله وطلب من زوجته ان تخرج وتغلق الباب – فخرجت – ولما رجعت وجدته قد مات. وكان ذلك كي ينفرد بضيوفه الذين استقبلهم بالمسك.

يزور البغادة بلدة سلمان الفارسي المسماة عندهم سلمان باك لمشاهدة بقايا ايوان كسرى والتبرك بالضريح المنسوب لسلمان – وللحلاقين عناية خاصة به لانهم يقولون انه كان حلاق النبي - - وللبغادة اهزوجة يرددونها وهم في طريقهم للزيارة تقول :

(والما يزور السلمان، عمره خسارة)



* من كتاب شخصيات قلقة في الاسلام للفيلسوف العربي، هادي العلوي مع التصرف..