Back Home Next


قصة مسيرة التحدي في ٢٨ صفر ١٩٧٨:  في (الأربعين)

آراء الكاتب

نزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

 

هذا الزحف المليوني الى مرقد سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام، بمناسبة (الأربعين) يتعلم من عاشوراء، فيما يتعلم، التحدي، ففي ظروف المواجهة، إنْ مع الطاغوت او مع الفساد او مع الارهاب، لا يمكن تحقيق الفوز والنصر وتجاوز المحنة الا بالتحدي الذي يعتمد الإرادة الفولاذية التي يصنعها في النفوس حب الحسين (ع) والتخلق بأخلاقه النبيلة وقيمه الرسالية الانسانية العظيمة، والتشرب بروحه الوثابة والسامية.

في طريقي اليوم من كربلاء المقدسة الى النجف الاشرف، حيث مرقد ومثوى اخو رسول الله (ص) الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهم السلام، ترى مسيرة مليونية اخرى تمشي سيرا على الأقدام لتقديم التعازي بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله (ص) ورحمة الله للعاملين، في (٢٨) صفر المظفر من كل عام.

المسيرة ذكرتني بمسيرة اخرى انطلقت في نفس اليوم ولكن قبل (٣٥) عاما وتحديدا في (٢٨) صفر من العام 1978.

الذكرى فرضت عليّ ان اكتب عنها شيئا ليعرف الجيل الجديد، بل الأجيال الجديدة، شيئين مهمين:

1.      الاول: هو ان هذه الظاهرة المليونية السنوية لم تأت او تصل اليه بالمجان، فلقد قدمت الأجيال السابقة دماءا ودموعا وآهات ومعاناة لتحفظ للأجيال دينها وعاداتها وتقاليدها الحقيقية والصحيحة التي تندرج في إطار مفهوم الاية المباركة {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

2.      الثاني: هو ان الأجيال التي سبقتها لم تركع للطاغوت ولم تستسلم لسياساته المنحرفة التي تمثلت، فيما تمثلت، بحربه الشعواء ضد الحسين (ع) ليقتلع جذوره من عقولنا وأرواحنا وفكرنا وثقافتنا، فلقد تحدت الأجيال السابقة وضحت بكل غال ونفيس من اجل الحفاظ على دين الناس وشعائرهم، وعلى رأسها الشعائر الحسينية.

فما هي قصة مسيرة التحدي في (٢٨) صفر عام ١٩٧٨؟.

كان العراق في تلك الفترة الزمنية يغلي، فللتو صدرت الأحكام الجائرة بحق ثلة من انصار الحسين (ع) إثر انتفاضة صفر الباسلة عام ١٩٧٧، والتي تراوحت بين الإعدام شنقا حتى الموت والسجن المؤبد والسجن لمدد طويلة، فيما كان وقتها الطاغية الذليل صدام حسين يخطط لاقصاء البكر عن سدة الحكم ليحل محله طاغوتا مستفردا بالسلطة بلا منازع، فيما كانت الجارة ايران تشهد واحدة من اعظم الثورات الشعبية في المنطقة والعالم بقيادة علماء الدين، أخذت بألباب الناس وعقولهم وشغلت بالهم وتفكيرهم.

كان الشباب الحسيني المؤمن يعيش اجواء التحدي في قمتها، خاصة في مدينة الحسين (ع) مدينة التحدي والجهاد والشهادة والتمرد على الظلم، مدينة عاشوراء وما شهدت، فاتفقت ثلة منهم، وكنت أصغرهم سنا، على ان تفعل شيئا يُظهر هذا التحدي للعيان، وبأي ثمن كان، ليردوا به على جريمة الأحكام الجائرة بحق انصار الحسين (ع).

قررت الثلة ان تنظم مسيرة جماهيرية تنطلق من كربلاء المقدسة الى النجف الاشرف في يوم (٢٨) صفر ذكرى وفاة الرسول الأكرم (ص).

وبالفعل، انطلقت المسيرة من منطقة خان النص، هي الان مدينة مترامية الأطراف ومتعددة الأحياء كانت وقتها عبارة عن خان يقيم فيه الزائرون تحيطه عدد قليل من البيوت والمحال التجارية الصغيرة، يتوسط المسافة بين المدينتين، انطلقت المسيرة بعد ان تم تنظيم كل الامور وإعداد الرايات واللافت ومكبرات الصوت، وقد أعدت الثلة عددا من القصائد الحسينية الحماسية التي تحمل نكهة السياسة والتحدي، لتُقرأ في المسيرة على الملأ،  من بينها القصيدة الرائعة التي كان قد كتبها المحقق والخطيب البارع والمفوه الحجة السيد غياث طعمة، وهي؛

ورجال هم حسين او يزيد

 

انما ايامنا حزن وعيد

وتوكلنا على رب العباد

 

نحن قوم قد سعينا للجهاد

ليزول الظلم والعدل يسود

 

همنا ان يحكم الدين البلاد

وصرخنا مالكم منا مناص

 

وتهيأنا لحبل ورصاص

 اننا نبغي الجزا يوم الوعيد

 

ولكم في هذه الدنيا قصاص

تلد الاهات جيلا مسلما

 

كلما زدتم ضلالا وعمى

نوره يقضم قضبان الحديد

 

كل من يُقتَل يغدو علما

أو سنجفو ديننا عند الردى

 

أظننتم انّنا دون هدى

يوم تدعو ناره هل من مزيد

 

ليرى الرحمن وجها اسودا

أنا لن أصبح عبد للصنم

 

يزأر المؤمن عالي الشيم

غير أني عن طريقي لن أحيد

 

فاشربوا في الله نفسي ودمي

سيدوّي صوتها حتى الجنين

 

كل آهٍ في سجون الظالمين

 ليحل الدين والعهد الجديد

 

وستمحو عن بلادي الكافرين

خائفا من عودة الدين غريب

 

أحسين ثرت في يوم عصيب

خالدا مادام للدنيا خلود

 

ثم أطلقت شعارا لن يغيب

 دونما حربيَ أو سفك دمي

 

إن يكن ذا الدين لم يستقم

ليفكَّ الدين أغلال العبيد

 

فخذيني ياسيوف الظُّلَمِ

بالاضافة الى عدد آخر من القصائد الحماسية والثورية.

فما الذي حصل بعد ذلك؟.

مسيرة التحدي عام ١٩٧٨ وتنظيم الانطلاقة

تجمع الشباب الثائر عند منطقة (خان النص) في حوالي ظهيرة يوم ٢٧ صفر عام ١٩٧٨ ليقيموا صلاة الظهر والعصر جماعة، قبل ان ينطلقوا في مسيرة التحدي باتجاه مثوى امير المؤمنين (ع) ومرقده الشريف في النجف الاشرف.

كان الركب يتمثل بركب الحسين (ع) الذي غادر مكة المكرمة باتجاه العراق، في الأهداف والمنطلقات والروح الرسالية والمعنويات العالية والتصميم على التحدي والمثابرة، الا انه كان يختلف عنه في امر واحد فقط، فبينما كان ركب الحسين (ع) قد بدأ في مكة المكرمة بعدد كبير من الناس، ليتناقص عددهم كلما  تقدم نحو الهدف بسبب اطلاع الامام لهم على الحقائق كلما وصلته من مقصده، الكوفة، حتى استقر العدد على نيف ومئة في اكثر الروايات التاريخية، بدأ ركبنا بعدد لم يتجاوز عدد شهداء كربلاء لينتهي بمسيرة جماهيرية ضخمة جدا وصل عدد المشاركين فيها الى عشرات الآلاف، اذ كلما كان الركب يقترب من أسوار المدينة كان العدد يتزايد اذ كان انصار رسول الله (ص) وأهل بيته عليهم السلام يلتحقون به غير مبالين بالمخاطر الجمة التي كانت تحدق به في ظروف التحدي العظيمة تلك.

ولقد اجتمع قرار الثلة الحسينية المؤمنة، مبدئيا، على ان تنتهي مسيرة التحدي عند أسوار مدينة النجف الاشرف تحسبا للطوارئ وخشية من حملات الاعتقال التي عادة ما يشنها النظام الشمولي عندما يتحسس الخطر من أية حركة من هذا النوع، خاصة وان القصائد التي صدحت بها مكبرات الصوت كانت ثورية وسياسية هادفة بكل معنى الكلمة، كما انها كانت تمس النظام ورموزه وسياساته في الصميم، فان دخول مسيرة جماهيرية كبيرة الى داخل المدينة المكتضة بالزائرين من مختلف محافظات العراق وكذلك بعدد كبير منهم من مختلف دول العالم، يعد ناقوس خطر لا يتحمله النظام وزبانيته وأزلامه، ولذلك كان القرار الأولي ان تنتهي مسيرة التحدي عند أسوار المدينة ليفترق الجمع ويختفي في الأزقة والطرقات الضيقة بلا خسائر، ان صح التعبير.

عندما أرادت مسيرة التحدي الانطلاق، بحث الجمع  الثائر عن من يصدح بصوته الجهوري بمكبرات الصوت، تاليا للقصائد المعدة وبالطريقة الفنية والحماسية المطلوبة، دون خوف او تردد او وجل، لا يترك المايكرفون مهما حصل.

ولحسن الحظ، فلقد وقع اختيار الجميع عليّ، وهو قرار أعده نعمة من الله تعالى ساقها لي في تلك اللحظة التاريخية التي كانت تحتاج الى شجاعة وجرأة غير طبيعية، فلو ان كل الجمع كان بإمكانه ان يفلت من الاعتقال ويتوارى عن الأنظار اذا ما داهمه الخطب، او اذا ما شن أزلام النظام الشمولي حملة اعتقالات، فان صاحب الصوت المرتفع الى السماء من خلال مكبرات الصوت ليس بإمكانه ذلك، كما انه لو قرر الهرب مثلا في ساعة ضعف او انهيار، فذلك يعني فشل مسيرة التحدي كلها، وذلك ما لم يكن في حسبان احد من الثلة ابدا، فالأمر الوحيد الذي كان يدور في خلدهم هو نجاح محاولة التحدي وباي ثمن.

انطلقت المسيرة وقد أمسكت بالمايكرفون مرددا القصائد الحسينية الثورية بكل شجاعة وجرأة وعزيمة وثبات، فلقد كنت، وقتها، شابا متحمساً في المرحلة الجامعية الثانية، احمل من الشجاعة والجرأة ما يكفي لتحمل مثل هذه المسؤولية الثقيلة والتصدي لمثل هذا الموقف، والحمد لله فلقد كنت عند حسن ظن كل من قلدني وسام هذه المسؤولية.

غذنا السير والركب يكبر ويكبر حتى وصلنا الى أسوار مدينة النجف الاشرف، عندها همس في أذني عدد من زملائي في الثلة الثائرة ان قد وصلنا الى المكان المتفق عليه وعليك الان بالتوقف عن قراءة القصائد فورا وترك مكبرات الصوت، وأضافوا؛

لقد تأكد لنا بان المسيرة محاطة بعناصر الأمن وأزلام النظام، فلا بد من إنهاء المسيرة فورا ليجد كل واحد منا طريقا للهرب من أعين النظام لئلا يصطادوا احدا فنقع كلنا في الفخ.

تلفّتُّ يمنة ويسرة وألقيت بنظرة الى الخلف، وإذا بالمسيرة قد كبر حجمها واتسعت رقعتها الجغرافية بشكل لا يوصف.

فكرت قليلا، ثم اتخذت القرار الصعب في تلك اللحظة الصعبة، قررت ان أواصل المسير بنفس الحماس وبنفس القصائد لحين الوصول بجمهورها الى مرقد امير المؤمنين (ع) وليكن ما يكون، ولكن؛ كيف لي ان أخالف رأي الجمع من زملائي؟ وكيف سأتصرف اذا ما حدث شيء للمسيرة وقد اتخذت قرارا فرديا من دون الرجوع الى احد؟ وقديما قيل (للانتصار الف أب، اما الهزيمة فيتيمة).

فكَّرت المرة والأخرى حتى استقر رأيي على ان أواصل المسير حيث المرقد الطاهر لأمير المؤمنين (ع) على ان أتحمل المسؤولية كاملة لوحدي.

وانا أصرخ بالقصائد في مكبرات الصوت، حاولت ان أهمس في اذن احد المؤمنين قائلا:انتم تفرقوا حسب اتفاقنا الأولي، اما انا فسأستمر وأواصل المسير الى مرقد الامام.

حاول ان يثنيني عن قراري هذا، محذرا من مغبة (التهور) الا انني كنت مصرا على قراري، خاصة وانا ارى المسيرة تكبر كلما تقدمنا خطوة. وكأنها كرة ثلج تكبر اكثر فاكثر كلما تدحرجت من عل.

استمرت مسيرة التحدي حتى وصلت مدخل السوق الكبير الذي يؤدي الى مرقد امير المؤمنين (ع) دخلتْ السوق فتضاعف صوت المكبرات كونه سوق مسقَّف ومقفل، اذا باعداد المشاركين تتضاعف بشكل ملفت للنظر فجن وقتها جنون السلطة وزبانيتها، فيما تضاعفت مسؤوليتي إزاء مسيرة التحدي كذلك، فزاد تصميمي على ان لا اتركها الا في داخل صحن الامام امير المؤمنين (ع).

فماذا حصل بعد ذلك؟.

مسيرة التحدي تصل حرم أمير المؤمنين (ع)

امتلأ السوق الكبير (المسقف) في النجف الاشرف بأنصار الحسين (ع) الذين التحقوا بمسيرة التحدي، وكانوا من مختلف المحافظات العراقية الذين حضروا الى النجف الاشرف لزيارة امير المؤمنين (ع) في ذكرى وفاة رسول الله (ص) في ٢٨ صفر.

بدوري، واصلت إلقاء القصائد الحماسية التي كان يرددها خلفي الجمع الكبير من الأنصار، فيما بدأتُ الحظ حركة غير طبيعية من قبل أزلام النظام وزبانيته، والذين جنّ جنونهم وهم يرون انفسهم عاجزين عن إيقاف المسيرة والحيلولة دون وصولها الى حرم الامير (ع).

وصلت المسيرة، بحمد الله تعالى، الى داخل الصحن العلوي الشريف، الذي كان مكتضا بالزائرين من النساء والرجال والكبار والصغار، وقد ارخى الليل سدوله.

ولقد كانت فرصة بالنسبة لي ان انهي المسيرة وسط هذا الجمع الكبير من الزائرين ليتسنى لي الإفلات من قبضة النظام، ففي مثل هذا الازدحام يضيع فيه المرء ويفلت عن أعين المراقبة.

وبالفعل، ما ان توسطت الجموع الغفيرة في وسط الصحن العلوي الشريف حتى ختمت المسيرة بالقول (الفاتحة مع الصلوات) لترتفع أصوات الزائرين بالصلاة على محمد وآل محمد، ثم دسست أوراق القصيدة الاخيرة التي كنت اقرأها في جيب الثوب (الدشداشة السوداء) التي كنت ارتديها وقتها.

ولكن..............

هنا كانت المفاجأة.

ففي اللحظة التي انتهى فيها كل شيء، اذا باثنين من عناصر الأمن من أزلام النظام الديكتاتوري، يمسكان بيدي، احدهما عن يميني والآخر عن شمالي، وطلبا مني ان اسلمهما الأوراق، قائلا احدهم: اين هذه القصيدة التي كنت تقرأها؟.

أجبته بثبات وثقة عالية بالنفس: كيف يمكنني ان استخرج الأوراق من جيبي وقد أمسكتما بكلتا يدي؟ اتركا يديّ لاعطيكما الاوراق؟.

نظر احدهما الى الاخر وكأنهما اتفقا على تلبية طلبي بحركات في العين والجفن، فإذا بهما قد تركاني بالفعل، ولكن من دون ان يتحركا قيد أنملة عن مكانهما.

عندها استخرجت القصيدة من جيبي وسلمتها لأحدهما، لأراهما يتهافتان على الورقة ويتنافسان أيهما يقرأها اولا، وكأنهما يريدان إرواء فضولهما.

في هذه الأثناء، خطر في بالي ان أفلت من بين يديهما واهرب، وبالفعل، تسللت رويدا رويدا ورميت بنفسي بين جموع الزائرين، ثم أطلقت العنان لقدميَّ حيثما استطعت، لأجد أمامي إيوانا فيه بعض الزائرين، فرميت بنفسي في داخله، ومكثت هناك بانتظار ان أتأكد من انه لا احد يتعقبني منهما، ولما تأكد لي ذلك فكرت في ان اترك المكان واخرج الى خارج الصحن العلوي الشريف، ولما حاولت ذلك، اذا برجل يلبس الكوفية والعقال يطلب مني الانتظار وعدم الخروج، تصورت، في الوهلة الاولى، بان الله تعالى فد بعثه لي ليساعدني في التخفي والهرب عن أعين السلطة، ولكن............

مهلا مهلا، كيف عرف هذا الرجل بأنني ملاحق او مطلوب من قبل أزلام النظام؟ لحظتها راودني الشك كثيرا، ففكرت في ان اترك المكان ثانية، اذا به ينهرني بأسلوب خشن ولسان فظ، عندها تأكدت بان الرجل من أزلام النظام، وهو يحاول حبسي في المكان لحين مجيء عناصر الأمن لاعتقالي واقتيادي الى حيث يريدون.

في هذه اللحظة فكرت في البحث عن خطة للهرب من المكان ومن عيون هذا الجاسوس، فابتكرت طريقة لترك المكان، وهي، ان اتخفى بجانب احد الزائرين الذي أراد ترك المكان، ولحسن الحظ كان الزائر بدينا بما يكفيني لان اتخفى بجانبه واتسلل معه الى خارج المكان، وهذا ما كان، فلقد نجحت الخطة وأفلتُّ من عيون الرجل الجاسوس، وتركت الصحن العلوي الشريف الى الخارج، من دون ان اعرف اين يجب ان اذهب؟ لقلة معرفتي بأزقة وشوارع النجف الاشرف.

فما الذي حدث لي خارج الصحن الحيدري الشريف؟ وكيف نجوت من القوم الظالمين؟.

 

اعلان حالة الإنذار القصوى في صفوف المؤمنين

نجحت الخطة بحمد الله ومنّه، وتركت الصحن الحيدري لأجد نفسي في أزقة النجف الاشرف، من دون ان اعرف اين عليّ ان اذهب لاغادرها الى كربلاء المقدسة، ومنها الى جامعتي في مدينة السليمانية، لاتوارى بالكامل عن الأنظار، ثم اتسقط الانباء من بعيد لأتأكد فيما اذا كان أزلام النظام قد تعقبوني، مثلا، او عرفوني او ما الى ذلك، ليتسنى لي اتخاذ القرار المناسب عن بعد، وقبل ان أقع فريسة سهلة بيد النظام.

في هذه الأثناء، وانا أسير بغير هدى كالحيران، في أزقة مظلمة ليس فيها من يمكنني ان أسأله ليدلني الطريق، طل أمامي احد الأصدقاء الأعزاء من الثلة التي ساهمت في تنظيم مسيرة التحدي، وهو من أهالي مدينة النجف الاشرف، كان يقيم، وقتها، في مدينة كربلاء المقدسة، وكنا قد تعارفنا وجمعنا طريق الجهاد مطلع السبعينيات، فبادرني بالسؤال مندهشا: الحمد لله على السلامة، ماذا تفعل هنا؟ الى اين تريد الذهاب؟ فأجبته على الفور، بلا أسئلة، خذني الى سيارات كربلاء، اريد مغادرة النجف على الفور.

لم يتردد الاخ او يتأخر، أمسك بيدي اليمنى وانطلق بي بين الأزقة الضيقة كدليل خبير يعرف طريقه بلا تردد او تفكير.

دقائق، وإذا بنا في ساحة كبيرة مملوءة بالسيارات التي ينادي أصحابها على اسماء المحافظات والمدن بحثا عن زبائن، ركاب، للانطلاق بهم.

احدهم كان ينادي بأعلى صوته، كربلاء كربلاء، لم نتردد، قفزنا الى داخل السيارة لتمتلئ بعد دقائق بالركاب.

انطلق بنا السائق الى كربلاء لأصل المنزل قبل منتصف الليل بقليل.

حاولت في الطريق ان اشرح للأخ ماذا جرى لي بعد دخول المسيرة صحن امير المؤمنين (ع) طبعا بهمس، خشية وجود (البرغش) في السيارة معنا، وهي كلمة السر التي كنا نستخدمها فيما بيننا للتدليل على وجود عناصر الأمن وأزلام النظام البوليسي، لأخذ الحيطة والحذر في الكلام.

اطمأنَّ علي الاخ وودعني عند باب المنزل.

كنت متعبا وقلقا، الا ان التعب، على ما يبدو، غلب القلق فاستسلمت لنوم عميق، لم استيقض منه الا على طرقات باب المنزل فجرا.

ظننت انهم عناصر الأمن وقد تعقبوني ولحقوا بي الى كربلاء، لم أشأ ان افتح الباب قبل التأكد من هوية الطارق، صعدت الى سطح الدار، اذا بهما الأخوين الشهيدين سعيد الشروفي وسالم جليل النجار، وكانا من الثلة التي ساهمت بشكل مباشر في تنظيم مسيرة التحدي.

استغربت مجيئهما في هذه الساعة المبكرة، ركضت الى ساحة الدار مندفعا باتجاه الباب الخارجي، باب السياج، فتحت لهما الباب، فبادراني قبل السلام:

استعجل، بدّل ملابسك، يجب ان ناخذك الى مكان بعيد آمن؟. 

قلت لهما: ما بكما؟ ماذا حصل؟ هل تعرّف أزلام النظام على هويتي؟.

اجابا باستغراب: وهل تريدهم لا يتعرفون عليك وقد اخذوا منك هويتك الشخصية؟.

فوجئت بالمعلومة، قائلا لهما: ومن قال لكما بان عناصر الأمن اخذوا هويتي الشخصية؟.

قالا: لقد وصل لنا خبر يفيد بان عنصري الأمن اللذين امسكا بك في الصحن الحيدري الشريف، قد طلبا منك هويتك، وأنك اعطيتهما ما أرادا على الفور.

في هذه اللحظة تنفست الصعداء، وعرفت لماذا جاءاني في هذا الوقت المبكر.

ضحكت، وقلت لهما: يبدو ان ناقل الخبر لم يتثبت من المعلومة، وانه تصور أوراق القصائد هويتي الشخصية.

قالا: تقصد انك لم تعطهم هويتك الشخصية؟.

أجبت: ابدا، وإنما هي أوراق مكتوب فيها آخر قصيدة كنت اقرأها في المسيرة، وأضفت، يبدو انها اعجبتهما.

رد الشهيدان بالقول:

تعرف، انه عندما وردنا الخبر اعلنّا حالة الإنذار القصوى بين صفوفنا تحسبا للطوارئ، فقد احتملنا كل شيء، منها شن النظام البوليسي لحملة اعتقالات في صفوفنا اذا ما أمسك برأس الخيط.

طمأنتهما، رحمهما الله تعالى، ثم سألاني: وماذا تنوي فعله الان؟.

أجبتهما: سأغادر اليوم الى الجامعة، واظل اترقب الانباء من بعيد لتفادي اي تطور سلبي للأحداث.

أثنيا على الفكرة، ثم ودعاني وغادرا.

ساعات، ثم غادرت كربلاء المقدسة الى العاصمة بغداد ومنها الى السليمانية، ليتبين لي، فيما بعد، ان الامور سارت على ما يرام، لم يتعرف على هويتي زيانية النظام، ولم يتعقبني احد، لينتهي بذلك فصل من فصول التحدي للنظام الشمولي البائد، ولنبدأ في العام التالي فصلا جديدا من فصول التحدي، قد تسنح لي الفرصة يوما لسرد تفاصيله باذن الله تعالى.

الطاغية يشن حملات الإعدام ضد المجاهدين

لم يهدأ العراقيون يوما في حركاتهم وانتفاضاتهم الثورية ضد نظام الطاغية الذليل صدام حسين.

فبعد انتفاضة صفر الظافرة عام ١٩٧٧ والتي تلتها مسيرة التحدي عام ١٩٧٨، ثم انتفاضة رجب عام ١٩٧٩ في مدينة الكاظمية المقدسة، واصل العراقيون نشاطهم الثوري الذي كان يتصاعد بشكل ملحوظ، حتى جاء العام ١٩٧٩ عندما أزاح الطاغية، احمد حسن البكر عن سدة الحكم في ١٧ تموز من ذلك العام، ليعلن نفسه حاكما مطلقا للعراق، جمع بين يديه كل مناصب الدولة والحزب والجيش.

ولم يكن بإمكانه فعل ذلك الا بشن حملات الإعدام بالجملة، بدأها اولا برفاقه الحزبيين، عندما اعدم (٥٥) من كبار قادة وكوادر الحزب الحاكم، ليشن بعد ذلك حملات الإعدام الجماعية ضد الحركيين الإسلاميين من مختلف التيارات والأحزاب والتنظيمات الاسلامية، ثم لتشمل المؤمنين بشكل عام.

فلقد اعدم الطاغية، لعنه الله، خيرة شباب العراق، كان نصيب الثلة المؤمنة التي خططت ونظمت مسيرة التحدي، كبيرا.

وفيما يلي اسماء بعض الشهداء السعداء، من الذين اشتركتُ معهم في مسيرة التحدي، والذي ساعدني على تذكرهم الاخ العزيز والصديق المجاهد والخطيب البارع الحجة السيد هاشم آل ماجد، وهو ممن كان ضمن مجموعة الثلة التي انطلقت بمسيرة التحدي.

من هؤلاء المجاهدين الأبطال الذين خططوا وشاركوا في مسيرة التحدي، ثم اعتقلوا في العام ١٩٨٠ ليعدموا على يد أزلام النظام البائد، الشهداء السعداء التالية أسماءهم :

 الشهيد السيد قاسم السندي والشهيد عبد الحسين ابو لحمة والشهيد سالم جليل النجار والشهيد جاسم العطار والشهيد الحاج سعد البرقعاوي والشهيد السيد سعيد الشروفي والشهيد ثائر مولوي والشهيد محمد مهدي الدورگي والشهيد محمد علي الدورگي والشهيد محمد حسين الدورگي والشهيد عبد الامير كبابي والشهيد موفق ابو الكبة والشهيد عبد الامير معاش والشهيد صادق معاش والشهيد جعفر معاش والشهيد صلاح معاش وآخرون.

ان دماء الشهداء الأبرار هي التي روت شجرة الحرية والكرامة، فلولا دماءهم الطاهرة وتضحياتهم الجسيمة لظل كابوس الديكتاتورية جاثما على صدر العراق الى اليوم.

فهل سنفي لدمائهم الطاهرة؟ فنتعاون على بناء الدولة العراقية الجديدة التي تقوم على أساس الدستور الفاعل والقانون والمساواة في تكافؤ الفرص، لينعم المواطن بالأمن والحرية والكرامة؟ ونحقق التنمية والمدنية؟ ام سنتنكر لدمائهم وأرواحهم وتضحياتهم، فنتخذ منها جسرا للعبور الى مآربنا الحزبية والشخصية الضيقة، وننسى اخوة الطريق ورفاق الدب؟.

عودٌ على بدء: مقترحات لتطوير المناسبة

ينبغي تطوير مناسبة (الأربعين) لتتناسب ومكانتها  وقدسيتها العظيمة، واقترح لذلك ما يلي:

اولا: تنظيمها لتستوعب الزحف المليوني الهادر، فالفوضى تقلل من هيبتها وتؤثر بالسلب على الجانب الروحي والمعنوي للزائر، وتقلل من تأثيراتها في هذا الجانب تحديدا. بالاضافة الى ذلك، فان تنظيمها يُبرز الجانب الحضاري من المناسبة، وهو امر مهم، خاصة وإنها الان تحتظن زائرين من مختلف دول العالم. واقترح بهذا الصدد:

a. الف؛ إخلاء شارع باب قبلة الحسين (ع) وكذلك شارع باب قبلة العباس (ع) فضلا عن الشوارع المحيطة بالمرقدين المقدسين والممتدة بينهما، من الباعة المتجولين وسرادقات الخدمة ومرور السيارات، باستثناء سيارات الخدمة الضرورية للحاجة القصوى فقط.
b. باء؛ تنظيم عملية إخلاء الزائرين بعد الزيارة، فما يلفت النظر هي الفوضى العارمة التي تصحب مغادرتهم كربلاء المقدسة في البرد القارس، وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمرضى.
c. جيم؛ توسيع نقاط تفتيش الزائرين، خاصة القريبة من العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، لتسهيل عملية انسياب الزائرين الى المرقدين المقدسين. كذلك، ينبغي ان تكون نقاط التفتيش والتقاطعات، نظيفة ومنظمة وغير عشوائية وضرورية في آن.


ثانيا: منع المواكب والسرادقات الحزبية منعا باتا، وكذلك منع الأحزاب السياسية من طباعة ونشر اي نوع من الأوراق او الكارتات التي تحمل زيارة (الأربعين) وغيرها من النصوص، في جانب، وصور وكلمات ودعايات لقادة الأحزاب ورموزها، من الجانب الآخر، فان كل ذلك يزرع الفرقة والضغينة والرياء والنفاق.
 

لقد كان نشاط الأحزاب السياسية في مثل هذه المناسبات ايام النظام الشمولي، يعد نضالا وجهادا ضد الاستبداد، ومحاولات جادة منها لتعبئة الشارع ضده لاسقاطه وتحقيق عملية التغيير المرجوة، اما اليوم، فهي مظاهر رياء ونفاق واضحة، ومن يتابع موكب الحزب الحاكم وسرادقاته في (الأربعين) مثلا، والذي بدت عليه آثار البذخ والترف، سيلمس هذه الحقيقة بشكل واضح ومخزي جدا.

طهروا (الأربعين) من كل مظاهر الرياء والنفاق بتطهيرها من المواكب الحزبية.

امنعوا من تدخل السياسة بالدين، ضعوا للمتاجرين بالحسين (ع) وبشعائره حدا، لا تدعوا الأحزاب السياسية تزرع الفتنة والرياء والنفاق في صفوف انصار الحسين (ع).

ثالثا: النظافة دليل مهم على هوية الانسان، ولذلك ينبغي الاهتمام بالنظافة التي هي من الإيمان، كما قال رسول الله (ص)، بشكل كبير جدا.

وعلى الرغم من ان المناسبة كانت هذا العام افضل من الأعوام السابقة على هذا الصعيد، الا ان الاهتمام بالنظافة في داخل مدينة كربلاء كان اقل بكثير مما ينبغي، ولذلك يجب الانتباه الى ذلك في العام القادم

فمثلا؛ يجب ان تمنع منعا باتا كل عمليات ذبح وسلخ المواشي في داخل المدينة القديمة، خاصة في الطرقات والازقة المحيطة بالمرقدين الطاهرين والقريبة منهما.

ان مناظر الدم والقاذورات وفضلات الحيوانات وجلودها المسلوخة، لا يتناسب ومظهر النظافة الذي يجب ان يرافق المناسبة.

رابعا: الاهتمام اكثر فاكثر بالإعلام، إِن من خلال الكيفية والجودة، او من خلال التنوع، سواء في برامج القنوات التلفزيونية او في التنوع الكيفي مثل توظيف السينما والمسرح والمسلسلات ومعارض الصور وغير ذلك

وبهذه المناسبة، احيّي الاخوة انصار الحسين (ع) الذين نصبوا هذا العام عددا من المسارح قرب المرقد الحسيني الشريف، والتي شهدت عروضا مسرحية يومية حاولوا خلالها تجسيد المناسبة العظيمة.


كذلك، ينبغي العمل، ومن الان، لإحضار الاعلام العالمي في السنة القادمة، فان ذلك امر مهم جدا، يساهم بشكل كبير وفعال في حمل نهضة الحسين (ع) وفلسفتها وقيمها وأهدافها ورمزيتها الى العالم، ما يسهل عملية (تشييع) العالم وفهمه لمدرسة اهل البيت (ع) خاصة في هذا الوقت الذي اختطفت فيه الزمر الإرهابية الاسلام كدين انساني شرّع كل ما من شأنه ان يحقق كرامة الانسان، كإنسان، خلقه الله تعالى فأحسن خلقه.

خامسا، وأخيرا: الاهتمام اكثر فاكثر بالعِبرة في عاشوراء وفي مثل هذه المناسبة العظيمة، لتترك اثرها في عملية التغيير الذاتي والبناء الحضاري، وتغيّر من سلوك الشباب على وجه التحديد بما يتناسب وقدسية وحرمة وعظمة المناسبة وصاحبها، الامام الحسين (عكما ينبغي الانتباه الى بعض الممارسات الشاذة، لكي لا يختلط العمل الصالح بالعمل السيء.

اللهم تقبل من زوار الحسين (ع) وخدٓمة ابي عبد الله (ع) أعمالهم وزيارتهم.

اللهم ارزق انصار الحسين (ع) ومحبيه وشيعته، أينما كانوا، زيارة الحسين (ع) في الدنيا وشفاعته في الآخرة، بحق محمد وآله الطاهرين.

اللهم ارزقنا السير على نهج الحسين (ع) في الإيمان والعلم والعمل الصالح، آمين يا رب العالمين.

لماذا غابت (سي ان ان CNN) وأخواتها عن زيارة الأربعين؟

ان الشعوب الغربية تحب الامام الحسين (ع) ولو انها تعرف حقائق نهضته المباركة وأسباب ثورته الخالدة لتشيع العالم، والغرب لا يحارب الحسين (ع) وشعائره المقدسة، وإنما الذي يحاربها هم المحسوبون على الاسلام من التكفيريين الارهابيين الذين تحرضهم فتاوى التكفير التي يصدرها فقهاء بلاط نظام القبيلة الحاكم في الجزيرة العربية، وكذلك بعض الذين يدعون التشيع والانتماء لأهل بيت النبوة والرسالة.

على مر التاريخ، فان الذي حارب الحسين (ع) وشعائره هي الحكومات (الاسلامية) الجائرة، وقبل ذلك ما يسمى بدولة الخلافة التي كان (امير المؤمنين) فيها أمثال الوليد بن الحكم والرشيد ومن لف لفهم، وما الطاغية الذليل صدام حسين ببعيد عن ذاكرتنا، والذي قتل انصار الحسين (ع) في داخل الصحن الحسيني الشريف وفي الشوارع والأزقة، منذ انتفاضة صفر الظافرة عام ١٩٧٧ وحتى سقوطه في عام ٢٠٠٣

ان شيعة امير المؤمنين ع رفعوا راية الحسين (ع) في نيويورك وواشنطن ولندن وباريس وفي كل عواصم العالم الغربي، فهل تسمح لهم الأنظمة والحكومات في جل البلاد العربية والإسلامية ان يرفعوا هذه الراية الخفاقة في عواصمهم؟ هل يسمح لهم آل سعود ان يرفعوا راية الحسين (ع) في الرياض مثلا؟،

ان الغرب لا يحارب الحسين (ع) ولا يحارب شعائره، بل العكس هو الصحيح فهم يحترمون عقائد الناس ومشاعرهم وشعائرهم وطريقة عبادتهم لله تعالى، ولذلك انتشر التشيع وينتشر اليوم في الغرب اسرع من انتشاره في البلاد العربية والإسلامية، والتي تحارب الحسين (ع) بفتاوى التكفير وبالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة.

لقد تحولت عواصم ومدن كاملة في الغرب الى ما يشبه اجواء مدينة كربلاء المقدسة في عاشوراء والأربعين وعموم ايام شهري محرم الحرام وصفر المظفر، اما في العالم العربي والإسلامي فلا زال فقهاء وخطباء التكفير ينعقون صارخين محذرين الشعوب مما يسمونه بالتبشير الشيعي، فيما تتباكى قنواتهم الطائفية على الأمة التي يتهددها انتشار التشيع على حد قولهم الباطل.

ولو ان المعنيين بالزحف المليوني الى الحسين (ع) في زيارة الأربعين، وأخص بالذكر العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، يبذلون جهدا مركزا لنجحوا في إحضار الاعلام الغربي الى كربلاء في مثل هذه الايام، كقنوات السي ان ان CNN والفوكس نيوز FOX والبي بي سي BBC وغيرها، لتغطية هذه الظاهرة الفريدة من نوعها في العالم.

اتمنى على العتبتين في العام القادم ان يهتموا بهذا الموضوع وهو مهم جدا، من خلال الاتصال بالأعلام العالمي، الغربي تحديدا، وتقديم التسهيلات والامتيازات الممكنة، لاحضاره الى كربلاء المقدسة في ايام الزحف المليوني المقدس الذي يشهده العالم في زيارة أربعين سيد الشهداء عليه السلام.