Back Home Next 
 
 

حَمّامات بغداد أيّام زمان

منتجعات للترفيه والغناء
 


في مذكراته (المملكة العربية السعودية كما عرفتها) التي كتبها الحاج المرحوم امين المميز، يصف وزير العراق المفوض في السعودية لحظة وصوله الى مطار جدة في العشرين من مايس عام 1954 ولحظة خروجه من الطائرة بانها تشبه الدخول الى (حمّام حيدر)، لحرارة جو الحجاز العالية المشبعة بالرطوبة 

و(حمّام حيدر) الذي يضرب به المثل، كان في شارع المستنصر قرب محلة رأس القرية، وينسب إلى حيدر جلبي من أغنياء بغداد وموسريها، وهو احد بقايا عشرة آلاف حمّام في بغداد وحدها، كما قدرها المؤرخ اليعقوبي في القرن الثالث الهجري (955م)، قبل ان يتناقص عددها ليصل في القرن السادس الهجري الى الفي حمّام فقط! 

وكلمة (حمّام) أصلها (حمّى) باللغة العربية وتعني الحرارة المفرطة وقد وردت بصيغة (حمّام تركي) لدى البعض على الرغم من أن الأتراك لم يستخدموا الحمّامات عندما كانوا بدواً في موطنهم الاصلي بآسيا الوسطى، لكنهم استخدموها بعد دخولهم الى الإسلام. 

واصبح الحمّام في بغداد جزءاً من الحياة البغدادية منذ اقدم العصور، وفي أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1916 فإن الحمّامات البغدادية كانت جزءاً من حياة (البغادة) الحافلة بالمعتقدات والعادات الشعبية والحكايات، اذ لم يوجد بغدادي في بداية القرن الماضي ليس له حمّامه العام الذي كان يرتاده قبل أن تصبح شيئا من الماضي، لأن بيوت البغداديين أيام زمان نادراً ما تجد فيها حمّاماً خاصاً الا عند الموسرين منهم الذين بنوا القصور والمنازل الحديثة. 


ويتذكر الحاج سبع عبود، الذي مازال يتردد على احد حمامات الكرادة، ان الحمّام البغدادي كان ملتقى اجتماعياً يجمع أبناء المحلات المتقاربة، ويتميز بفوائد عديدة لا تقتصر على الاغتسال والنظافة، انما كان منتجعاً للترفيه والطبابة والتعارف والاسترخاء وحتى الغناء اثباتاً للموهبة والهواية، وكانت له طقوس وعادات وأجواء زاخرة بالطرافة والفكاهة 

Related image

 

تتكون اغلب الحمّامات من ثلاثة اقسام، 

  1. الأول (المنزع) او حوش الحمّام وهو الذي أول ما يدخل اليه الزبون حيث يجلس على (لوج) مرتفع في مدخله وحوله اشبه بالرفوف فيها المناشف والصابون ومستلزمات الحمام الأخرى، وتحيط بالمكان (دكة) مفروشة بالحصران والبسط يجلس عليها الزبائن ويضع كل واحد منهم (بقجة) فيها أغراضه وملابسه ويشرع في نزع ملابسه ويتقدم منه عامل الحمام ليعطيه (الوزرة) او ما يسمى (البشطمال) يلف جسده بها كما يعطيه قبقاباَ خشبياَ يضع قدميه فيه. 

     

  2. بعدها يذهب الزبون الى (قسم التعرق) وهو قاعة ثانية بدرجة حرارة مناسبة تفصله عن الأولى ستارة من قماش سميك وفي وسطها (دكة) يتمدد عليها الزبون لكي يتعرق، واذا أراد المستحم (مدلكجياً) فطلبه موجود حتماً. 

     

  3. ثم يدخل المستحم الى قاعة الاغتسال التي هي قلب الحمام الساخن حيث تتصاعد الحرارة العالية مع بخارها، وهي قاعة مستطيلة أو دائرية حولها أحواض الغسل وفي كل حوض حنفيتان، واحدة للماء الحار والأخرى للماء البارد مع (طاستين) نحاسيتين.

وغالبا ما يشترك اكثر من شخص في حوض واحد، وهنا يقوم (المدلكجي) بغسل جسم الزبون بالليفة والصابون مرتين أو ثلاث مرات، وحين ينتهي الزبون من الاغتسال يطرق بـ (الطاسة) النحاس على حافة الحوض لكي ينبه عامل الحمّام بأنه جاهز للخروج ويريد مناشف، ثم يخرج الى مدخل المنطقة الوسطى (التعرق) ليجد العامل بانتظاره حاملا له المناشف النظيفة، ثم يقدم له شاي الدارسين، وبعد فترة (تنشيف) يرتدي ملابسه النظيفة ويلف ملابسه الوسخة في (البقجة) التي معه ويقوم بدفع أجرة الحمام وإكراميات (المدلكجي) وعامل الحمّام و(الجايجي) 

 

وما يثير الدهشة ان وقود تلك الحمّامات كان (روث الحمير) ! اذ كان يوجد الى جوار كل حمّام (تلّ) من روث الحمير يشترونه من (النكاكيب) وهم باعة الطابوق والجص والقصب والحصران، ولهؤلاء الباعة عدد من الحمير فإذا (روثت) حملوا الروث إلى الحمامات وباعوها لأصحابها، وينشأ من هذا الروث بعد إحراقه لتسخين ماء الحمام نوع من الرماد شديد الزرقة كان أصحاب الحمّامات يبيعونه لبائعي المواد الإنشائية الذين يخلطونه بالنورة فينشأ منه ما هو اشد قوة من السمنت. 

واذا ذكر حمّام الرجال فلا بد ان يذكر (حمّام النسوان) الذي اشتهر في الامثال الشعبية كمكان يضج بالاحاديث الصاخبة للمستحمات ولا يفهم منه شيء. 

وحمّام النساء هو نفسه حمام الرجال إلا أن ذلك الحمام يترك نهاراً لاستحمام النساء ويعمل ليلاً في خدمة الرجال المستحمين.

تقول الحاجة (ام سمية): كان يوم الذهاب الى الحمام يوم (كسلة) بالنسبة للمرأة، تصطحب معها (الركية) وهي اناء دائري مضلع على شكل (اشياف) الرقي مصنوع من (الصفر) أي النحاس، وله غطاء وتستخدمه لحفظ التجهيزات الخاصة بها مثل (الديرم وسبداج الوجه وكيس الحمام والليفة والصابونة ومشط الخشب والحجارة السوداء.

وعلى ذكر المثل (اذا ضاق خلكك اتذكر ايام عرسك) تستذكر الحاجة ام سمية التي جاوزت عقدها السابع من العمر احلى ايام عمرها، وتقول ان العروس كانت تأتي الى الحمّام برفقة صاحباتها فيتحول المكان الى احتفال تتعالى فيه الزغاريد والاغاني حيث تكون (طاسات الصفر)، في مقدمة آلات العزف المصاحبة للغناء! وتضيف ان بعض النسوة المستحمات يقضين معظم النهار في الحمّام، لذلك تراهن يستحضرن جميع ما يلزمهن من الطعام مثل الكباب والكبة وخبز العروك والفواكه خصوصاً النومي حلو ولايرجعن الى بيوتهن الا عصراً، وذلك تنفيساً لبقائهن في بيوتهن شهراً كاملاً او اكثر لا يخرجن منه الا للجيران او الاقرباء ! 

Image result for ‫حمامات بغداد pictures‬‎

حمام بشوات بغداد

 

للبغداديين قصص طريفة عن ايام طفولتهم وهم في سن الخامسة أو السادسة من العمر حين كانوا يذهبون مع امهاتهم الى (حمّام النسوان) وبعضهم لايسمح له بالدخول برغم ان عمره كان دون السابعة لاعتقاد بعض النسوة ان هؤلاء الاطفال قد يسترقون (النظر المحرم) لان عيونهم ربما تزيغ هنا او هناك بقصد او بدون قصد!

وللعرسان حكايات لاتنسى، اذ كان العرس في بغداد يبدأ من الحمّام حيث تبدأ مراسيمه بالنسبة للعريس من ساعة أخذه للحمّام مع مجموعة من اصدقائه المقربين الذين يدفعون اجور (الحمّام) تكريماً له، وبعد ان يتم (غسله وتوظيبه) يخرجون به الى الزفة في ليلة الدخلة !

ويبدو ان نوري السعيد كان من رواد احد حمّامات بغداد في منطقة الحيدرخانة، حسب قول الحاج رجب رشيد الذي كان يسكن في بيت العائلة قرب الحمّام، ويشير الى ان (الباشا) كان يصحب مرافقه (الشرطي) الذي يحمل (بقجة) ملابس اشهر رئيس وزراء عراقي وهما يدخلان الى الحمّام!!! 

واذا تحدثنا عن اشهر حمّامات الكرخ، فلا بد ان نذكر (حمّام شامي) الذي يعود تأريخ انشائه الى القرن السادس عشر الميلادي ويقع في علاوي الشيخ صندل و(حمّام ايوب يتيم)  و(حمّام الجسر) ويقع بجوار (مشهد بنات الحسن) و(حمّام الجعيفر) في الكرخ. 

أما في الرصافة فأشهرها (حمّام حيدر) بقسميه الرجالي والنسائي و(حمّام الشورجة) و(حمّام بنجه علي) مقابل سوق الصفافير و(حمّام كجو) في باب الآغا و(حمّام الباشا) قرب سوق الهرج و(حمّام المالح) الذي سميت المحلة باسمه و(حمّام الكهية) و(حمّام يونس) في محلة الميدان قرب باب المعظم و(حمّام عيفان) و(حمّام القاضي) بجانب المحكمة الشرعية وأكثر رواده من تجار بغداد ويتميز بنظافة المكان وأناقة (المنزع) و(حمّام السيد)  و(حمّام الراعي) يقع في محلة باب الشيخ و(حمّام السيد يحيى) في محلة سوق الغزل في سوق العطّارين، و(حمّام كيجه جيلر) و(حمّام بكتاش خان) وغيرها من الحمّامات التي اختفت من بغداد الان. 

وبعض الحمّامات تكاد تكون خاصة لمستحمين لا يتردد غيرهم عليها ومنها التي لا تسع أكثر من أربعة أشخاص وهي تقع داخل البيوت. واخذت حمّامات بغداد حيزاً كبيراً من الذاكرة الشعبية البغدادية، ويكاد المؤرخ يجزم بأن لا أحد من البغداديين من لم يدخل (حمّام السوق) كما يطلق عليه اليوم. ولا يوجد حمّام من حمّامات بغداد له طقوس تختلف عن غيره، لكن طباع البغداديين تكون مختلفة عموماً، فكل واحد يريد الحمّام على مزاجه ومرامه، لذلك يختار البغدادي حمّامه الخاص ومقهاه الخاصة وصحيفته المفضلة وحزبه وزعيمه الخاص به وشيخه الذي يفضله على الآخرين، وفي الحمّام لابد للمستحم أن يختار مدلكه ولا يحيد عنه ! 

وعلى اريكة متهالكة في مقهى حسن عجمي في محلة الحيدرخانة، جلس الحاج خليل ابراهيم بجسده المتعب متأملاً صخب الباعة والحمالين في شارع الرشيد، وحين عرف ان الموضوع عن حمّامات بغداد، قال بلهجة بغدادية ( أغاتي، كانت الناس ايام زمان تدخل الحمّام لتنظف اجسامها، اما اليوم فلن تستطيع حمّامات الدنيا تنظيف نفس توسخت بالحرام ويد تلطخت بالدماء .!