Back Home Next

 

لماذا كان لدار الحكمة في العصر العباسي  ببغداد، شهرة عالمية ؟

مقتبس من كتاب الحضارة السريانية حضارة عالمية لموسى مخول

 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

 

ridhaalattar@yahoo.com

 

ليس من شك انه قدّر للخليفة العباسي المأمون ان يخدم الثقافة العربية الاسلامية خدمة جلّى خلال العشرين سنة من حكمه، عن طريق اهتمامه الخاص بعلوم اليونان القديم. خاصة بعد ان لفظت مدرسة الاسكندرية انفاسها بعد الفتح الاسلامي الذي قطع ما بينها وبين بيزنطية - -  فقد واصل السريان العرب في انطاكية وحران حماية تراثها ونقلوها  الى بغداد – فكان المأمون يفضي على هذه الجهود كل عطف ورعاية، فقد حاول الخليفة ان يجمع في بيت الحكمة الذي اقيم في بلاطه، كنوز العلوم الاسلامية الى كنوز العلوم الاجنبية - - وفي سنة 830 م انشأ المأمون بيت الحكمة في بغداد، وهو مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة، وقد اقام فيه طائفة من المترجمين واجرى عليهم الارزاق من بيت المال، حقا ان الدار كانت منارا يشع احدث معارف العصر، ينير ظلمات القرون الوسطى - - هذا ما جاء في (قصة الحضارة) للمؤرخ الامريكي الشهير ول ديوارنت.

 لقد كان الاهتمام الكبير بحركة الترجمة والتأليف وما رافقها من توسع و تطوير في كافة المجالات قد ساهمت في ظهور اعلام عظام مثل ابن سينا، استاذ المعارف الطبية. والخوارزمي عالم الرياضيات الشهير، مبتكر علم اللوغارتما، والفارابي الفيلسوف الفذ. وبهؤلاء وبغيرهم،  توجت بغداد العباسية بعصرها الذهبي المشهود. فكان هذا المعهد دليل لأرقى حضارة انسانية في تاريخ البشر حينذاك، ورمز لشهرته العالمية
.

 

 لقد كانت الترجمة في السابق من اليونانية الى اللغة السريانية مباشرة، اذ كان معظم المترجمين سريان، لكن المأمون حولها بالتدريج الى اللغة العربية - - وقد ازدهرت  حركة الترجمة ازدهارا عظيما، بعد ان جلبت الدولة المزيد من الكتب العلمية من آسيا الصغرى والقسطنطينية وما كان يجمعه السريان من اديرتهم ومعابدهم في بلاد الشام -  و اصبحت في عهدة اجلّ العلماء وافصحهم - - -  ومن الذين اسهموا في انجاح حركة الترجمة في بيت الحكمة الطبيب يوحنا بن ماسوية الذي عينه المأمون رئيسا لهذه المؤسسة. اذ كان تلاميذه يقرءون عليه في هذا المجلس كتب ارسطوطاليس و جالينوس، وهما من عظماء فلاسفة الاغريق. - - وعلى شاكلة مجلسه، كان هناك مجلس حنين بن اسحاق، العالم والحاذق في علم الترجمة،  الذي رسم له المأمون على كل كتاب ينقله الى العربية ان يأخذ وزنه ذهبا.

 

وكان كثير من المصنفات اليونانية قد ترجمت الى الفارسية، فأدلى الفرس بدلوهم لا في نقل ثقافتهم الى العربية فحسب بل وايضا في نقل بعض الاثار اليونانية القديمة كمنطق ارسطو عبر ادب النابغة عبد الله بن المقفع الى اللغة العربية. كذلك ترجمت كليلة ودمنه وسند هند، الهندي الاصل الى العربية من قبل المترجمين الفرس.   

 

لقد تأسس بيت الحكمة بهدف تسهيل الدرس والمطالعة والترجمة والتأليف لمن يرغب في ذلك – فقد كان في السابق متعذرا على الناس ان يقفوا على الكتب العلمية النادرة  لكن هذا المعهد قد يسّر لهم هذه المعضلة - - وفتح ابوابه لكل القاصدين كي يقفوا على  تراث الامم التي تقدمتهم في المجالات الفكرية والعلمية.

 

يخيل الى الانسان و كأنما كانت ازواد المعرفة والثقافة ملقاة في كل مكان، مهيأة لكل انسان – فأبواب المساجد مفتوحة على مصراعيها لكل الواردين -  والتعليم مجانا من حق الجميع. فنهض الوعي العام نهضة واسعة –  فكان الاولاد في الكتاتيب يتعلمون مبادئ القراءة والكتابة والحساب وأيات من القرآن الكريم، بينما كانوا يؤثرون في تعليم الاناث تحفيظهن سورة النور.

 

وابعد من ذلك ان اكثر العامة كانوا يصيبون حظوظا مختلفة من الثقافة، اذ لم يكن بينهم وبين الثقافة اي حجاب، - - فنهل كل ما نزع اليه من ينابيع المعرفة. والجاحظ خير من يصور ذلك اذ يقول : لقد كان شغف العراقيين للقراءة، كالاسد حينما ينقض على فريسته

 

لقد جمع الخليفة المأمون في دار الحكمة خيرة العلماء والفقهاء و الفلاسفة والفلكيين، وحثهم الى الجدال والمناظرة وافضى عليهم الحرية في الحوار والمناقشة، وبعد البحث المعمق وتبادل الافكار، ايام طوال كان كل فريق منهم يخرج بكتاب ينصر فيه مذهبه ويؤيد قوله. ( مروج الذهب ) - - - لقد ضمن المأمون الحرية العقلية في هذه المجالس الى ابعد غاية ممكنة، بحيث كان كل راي يُعرض للمناقشة العقلية الخالصة حتى آراء الزنادقة - - -  ومما لا شك فيه ان المجتمع كان يرتبط حينئذ بالاسلام ارتباطا وثيقا في جميع شؤونه الروحية والاجتماعية – لكن سلطان العقل  وكأنه اصبح فوق سلطان الدين. - - وكل هذا باعثه الحقيقي رقي الحياة العقلية السموحة في هذا العصر.

 

ليس من شك في ان الحركة التنويرية لدار الحكمة  -  والتي كانت بمثابة جامعة كبيرة لطلاب العلم والمعرفة -  كانت لها انعكاساتها الايجابية التي ظهرت في مجالس اهل العلم والادب من مختلف اوساط الشعب حتى اذا صار هذا الصنيع من اهم الاسباب في انجاح النهضة الفكرية، والجدير بالذكر ان من كان يبزغ نجمه في حلقاتها لا يلبث ان يستدعى الى دار الخلافة، فاذا العطايا تسبغ عليه والرواتب تفرض له شهريا.

 

لذا كان من المتوقع بروز صفوة من العلماء والادباء والفنانين الذين قادوا الحركة الفكرية قيادة خصبة زاهرة، اذ استطاعت ان تضيف كل ما نقل الى العربية من ثقافات متباينة لأمم مختلفة،  ما دعم حضارتنا العربية دعما قويا، بما انتجوه من علوم وما كتبوا لنا من آثار عقلية رائعة وآيات شعرية خالدة.

 

 لقد تأسس بيت الحكمة بهدف تسهيل الدرس والمطالعة والترجمة والتأليف لمن يرغب في ذلك – فقد كان في السابق متعذرا على الناس ان يقفوا على الكتب العلمية النادرة  لكن معهد الحكمة هذا قد يسّر هذه المعضلة - - ففتح ابوابه لكل القاصدين لكي يقفوا على  تراث الامم التي تقدمتهم في المجالات الفكرية والعلمية.

 

كان الفلاسفة في دار الحكمة من اهل الملل والنحل،  يتناظرون بكل حرية وصراحة بكل ما يرونه اقرب الى العقل والمنطق وذلك من دون خوف او حذر – كان بين الذين اشرفوا على بيت الحكمة فلاسفة سريان، انهم كانوا يتمتعون بمنزلة رفيعة عند الخليفة المأمون، الذي كان يسترشد برأيهم ويعمل باقوالهم - - -  كانت خزانة بيت الحكمة مقسمة بحسب اللغات : فهناك قسم الكتب السريانية وقسم الكتب اليونانية وقسم الكتب الفارسية وكان كل قسم تحت رئاسة عالم جليل، كما كان الدار مقسما الى اقسام متعددة : فهذا للنقل والترجمة وذاك للتاليف والاخر للبحث العلمي، وغيره لعلم الفلك والرصد وهكذا - - لقد كان معهد الحكمة اول مكتبة عامة ذات شأن في العالم العربي الاسلامي، تنفق عليها الدولة بسخاء.

 

وفي ايام الخليفة المعتصم، الذي كان قليل الالمام بالمعرفة والثقافة، لم يرع بيت الحكمة وانما اتجه الى جلب الغلمان ذو البشرة البيضاء من بلاد البلقان، ثم هجر بسببهم بغداد الى سامراء، وخلص اهالي بغداد من شرهم وآذاهم،  فأصيب بيت الحكمة بصدمة - - ثم تزاحمت الاحداث وكثرت الفتن التي قللت من شأن المعهد واخفتت من صورته.

 

اما في زمن الامين (قبل المأمون)  فحدث ولا حرج، فقد كانت الصورة على اسوء ما يكون، حيث انغمر هذا الخليفة في مستنقع الفسق والفجور الى درجة انه كان يعيش للخمرة المسكرة، يشربها ارطالا. وكأنما كان في قلبه جذوة من الغرام بها لا سبيل الى اطفائها الا بشربها متتابعا حتى ليصل احيانا مساءه فيها بصباحه، حتى اذا نام واستيقظ في السحر طلب الى ابي نؤاس ان ينشطه ببعض الخمريات ليتابع سكره، فينشد  مرتجلا :

نبّه نديمك قد نعس

 

يسقيك كأسا في الغلس

صرفا كأن شعاعها

 

في كف شاربها قبس

تذر الفتى وكأنما

 

بلسانه منها   خرس

 يُدعى فيرفع راسه

 

 فاذا استقل به نكس

 

فيهش الامين وينشط ويدعو بالشراب ليصطبح به لليوم التالي وينعم بنشوته، غير مفكر في وقار الخلافة ولا في قدسية الدين - - فقد احتلت الخمرة قلبه وبسطت سلطانها على جوانحه، فأحبها وهام بها هياما.

 

ولم تقف الفضائح الاخلاقية للامين عند هذا الحد، بل جاوزته الى اقتناء الغلمان الترك بأعداد غفيرة حتى عجت بهم قصوره الى درجة انتشرت بين اهالي بغداد حوله قولة السوء. مما دفعت بأمّه الارملة زبيدة  ان تحضر له عشرة فتيات حسناوات، البستهن ثياب الاولاد وقالت له بما معناه (سخّمت وجهنا) تلهّى بهن واترك العادة القبيحة.

 

 ( هذا ما ورد في العصر العباسي الاول لشوقي ضيف )    

 

نعود الى موضوعنا – فقد ظلت خزانة بيت الحكمة كأهم مركز لحركة الترجمة في تاريخ الدولة العباسية منذ تاسيسه من قبل المأمون وحتى ايام الغزو المغولي لبغداد عام 1258 - - حيث كان لهذه المؤسسة العلمية ابلغ الاثر في ايصال العرب بحضارتهم في القرن التاسع والعاشر للميلاد الى اسمى منازل التقدم والتطور والرقي.

 

* من كتاب الحضارة السريانية حضارة عالمية لمؤلفه موسى مخول مع التصرف.