Back Home NextBack to Subject-Page

 

دور العقيدة في بناء فكر الاِنسان

الدكتور علي العطار

Acknowledgement from Rafed.net

 

1.  البناء الفكري

إنَّ نظرة الاِنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها ، والتي تسهم في بنائه الفكري والاَخلاقي والاجتماعي ، وتوجيه طاقاته نحو البناء والتغيير

تحرير فكر الاِنسان

 ترتكز نظرة العقيدة الاِسلامية على كون الاِنسان موجوداً مكرَّماً :

(ولقَدْ كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً).

 فهو خليفة الله في الاَرض ، يمتلك العوامل التي تؤهّله للسمّو والارتفاع إلى مراتب عالية:

 

(وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدسُ لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون)

كما أن بإمكان الاِنسان أن ينحطّ ويتسافل حتى يصل إلى مرتبة الحيوانية :

 

(... أخلدَ إلى الاَرضِ واتَّبعَ هواه فمثلهُ كمثل الكلبِ إن تحمل عليهِ يلهث أو تتركه يلهث..)

 

إن العقيدة الاِسلامية تراعي في الانسان عوامل القوة والضعف معاً و تعتبر عوامل الضعف في الاِنسان حالة طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري ، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد الاِنسان معها قدرته على البناء والحركة ، وحرية الاختيار .

العقيدة الاِسلامية تعتبر الخطيئة أمراً طارئاً على الاِنسان ، وليس ذاتياً أصيلاً تحاول العقيدة إشعار الاِنسان بأنّه موجود مكرَّم ، له موقعه المهمّ في هذا الكون ولقد أسهمت العقيدة إسهاماً فعالاً في تحرير الاِنسان على محاور عدّة، منها :

  1.  أولاً : حرَّرت الاِنسان من الاستبداد السياسي ، فليس في الاِسلام استبداد إنسان بآخر فلم تكن ثورة أبي ذر رحمه الله وثورة الحسين عليه السلام إلاّ منطلقاً لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الاِسلام. كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة «تأليه البشر» ، كعبادة الملوك والاَُسر الحاكمة. وقد أبطل الاِسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر ، قال تعالى :

    (يأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللهِ أتقاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خبيرٌ )

     

    فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية ، هو العبودية لله ، لاَنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة ، وليس في العبودية لله أي امتهان لكرامة الاِنسان ، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته 

  2. ثانياً : حرَّرت العقيدة الاِسلامية الاِنسان المسلم من شهوات نفسه.

نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنين عليه السلام ، فمن كتاب له عليه السلام للاَشتر لمّا ولاّه مصر : « هذا ما أمر به عبدُ الله عليّ أمير المؤمنين ، مالك بن الحارث الاَشتر... أمَرَهُ بتقوى الله ، وإيثار طاعته... وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات... فإنّ النّفس أمّارة بالسوء ، إلاّ ما رحم الله... فاملك هواك، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك ، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الاِنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية »

  1. ثالثاً : إنّ العقيدة الاِسلامية حرَّرت الاِنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها

يقول تعالى:

 

 (ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ ...) ،

 

 

(يا قومِ استغفرُوا ربَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إليهِ يُرسِلِ السَّماءَ عليكُم مِدراراً ويَزِدكُم قُوَّةً إلى قوَّتِكُم ولا تَتولَّوا مُجرِمين)

 

فالعبادة الحقة ، يجب أن تكون لله وحده ، والخوف يجب أن يكون من الذنوب ، التي تُثير سخط الله وتجلب انتقامه ، فيستخدم الطبيعة أداة للعقوبة ، كما أغرق الله فرعون باليّم ، وأرسل الريح العقيم التي أهلكت قوم عاد.

  1. رابعاً : تحرير الاِنسان من الاَساطير ومن الخرافة في الاعتقاد أو السلوك، من أجل رفع الحواجز الوهميّة التي تحول دون استخدام طاقة العقل على نحو سليم .

 للعقل مكانة كبيرة في الدين الاِسلامي ، فهو أصل في التوصّل إلى الاعتقاد الصحيح ، وهو دليل من أدلة الاجتهاد ، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «.. ولكلِّ شيء دعامة ، ودعامة الدين العقل »

قال صلى الله عليه وآله وسلم :  «من كان له عقل كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنة»

 

2.  تحرير العقل

نبذ التقليد الاَعمى:

(بَل قالُوا إنّا وجَدَنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُهتَدُون)

 

 (وكذَلِكَ ما أرسلنَا مِنْ قَبلِكَ في قَرَيةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُترفُوها إنّا وجدَنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارِهِم مُقتَدُون)

 

 توجيه طاقة العقل

بعد أن حرّرت العقيدة الاِسلامية العقل من القيود التي تأسره ، أطلقته إلى أمام وهي توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر في الكون والحياة

 قال تعالى :

 (إنَّ في خَلق السَّمواتِ والاَرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لاَياتٍ لاَُولي الاَلبابِ * الَّذينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السمواتِ والاَرض ربَّنا ما خلقتَ هَذا باطلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ )

 

(أفلا يَنظُرُونَ إلى الاِبل كيفَ خُلِقَت * وإلى السمآءِ كيفَ رُفِعَت * وإلى الجبال كيفَ نُصِبَت * وإلى الاَرض كيفَ سُطِحَت * فذَكِّر إنَّمآ أنتَ مُذَكِّرٌ)

 

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام :

 ولو فكَّروا في عظيم القُدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر

 

 النظر في سنن التاريخ

قال تعالى :         

(قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الاَرضِ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)

 

 وقال تعالى : 

(ألمَ يروا كم أهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِن قَرنٍ مَّكّنهُم في الاَرضِ ما لم نُمكّن لَكُم وأرسلنا السَّمآء عَليهِم مِدرَاراً وجعلنا الاَنهر تجري من تَحتِهم فأهلكنهُم بذُنوبِهم وأنشأنا مِن بعدِهم قَرناً ءآخرينَ)

 

 النظر في حكمة التشريع

الغرض من ذلك ترسيخ قناعة المسلم بتشريعه وصوابيته وبيان صلاحيته للتطبيق في كلِّ زمان ومكان، هناك تشريعات في الاِسلام ذات أبعاد اجتماعية كشف القرآن لنا عن الحكمة الكامنة من وراء تشريعها لمصالح تعود إلى الفرد والمجتمع ، من قبيل قوله تعالى:

 (ولكُم في القِصَاصِ حياةٌ يأُولي الاَلبابِ لعلَّكُم تتَّقون)

 

 توجيه العقل إلى النظر ، والتثبت في الرأي ، واستقلالية التفكير والقرار

 قال تعالى :  

(أفلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ أم على قُلُوبٍ أقفالُها)

 

 وقال تعالى :

 (قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُم إن كُنتُم صادِقِينَ)

 

 توجيه الاِنسان إلى كسب العلم والمعرفة:

 قال تعالى :  

(.. قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعلمُونَ إنَّما يَتَذَكَرُ أُولُوا الاَلبابِ)

 

(.. يَرفَعِ اللهُ الَّذينَ ءامنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ  واللهُ بِما تَعمَلُونَ خَبِيرٌ)

 

(وقُلْ ربِّ زِدني عِلماً)

 

يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : «طلبُ العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحجّ والجهاد في سبيل الله »

 

والمقارنة البديعة التي يعقدها الاِمام علي عليه السلام لكميل بن زياد النخعي حول تفضيل العلم على المال، قال عليه السلام :

«يا كُميل العلمُ خيرٌ من المال ، العلمُ يَحرُسك وأنت تحرسُ المال ، والمالُ تنقُصُهُ النفقة والعلم يزكو على الانفاق ، وصنيعُ المال يزول بزواله .

يا كميل بن زياد ، معرفةُ العلم دينٌ يُدانُ به ، به يكسبُ الاِنسانُ الطاعة في حياته ، وجميل الاَُحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكمٌ ، والمالُ محكوم عليه .

يا كميل ، هلك خُزَّانُ الاموال وهُمْ أحياء ، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة»

 

فالعلم بحاجة إلى الايمان كحاجة الجسد إلى روح ، لاَنّ العلم لوحده عاجز بطبيعته عن بناء الاِنسان الكامل ، فالتربية العلمية الخالصة تبني نصف إنسان لا إنساناً كاملاً ، وتصنع إنساناً قد يكون قوياً وقادراً ولكنّه ليس فاضلاً بالضرورة ، هي تصنع إنساناً ذا بعد واحد ، هو البعد المادي ، أما الاِيمان فإنّه يصوغ الشخصية في مختلف الاَبعاد .

 

go to top of page   3.  البناء الاجتماعي والتربوي

إثارة الشعور الاجتماعي

 لقد كان إنسان ما قبل الاِسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول ذاته ، وينطلق في تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه . أنّ الاِنسان الجاهلي ، الدائر حول ذاته ومنافعها ، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة ، يضحي بالنفس والنفيس في سبيل دينه ومجتمعه ، وبلغت آفاق التحول في نفسه إلى المستوى الذي يُؤثِر فيه مصالح أبناء جنسه على منافع نفسه .

 

إيقاظ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين

من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الاِنسان تجاه نفسه وغيره، كقوله تعالى:   (وقِفُوهُم إنَّهّم مسؤولُونَ) ،

وقوله تعالى :  

(ياأيُّها الَّذِين ءآمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم ناراً..).

 

 وقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم :   «وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون»

 

 تنمية روح التضحية والايثار

لقد حثَّ القرآن الكريم على الايثار ، وأشاد بروح التضحية التي اتّصف بها المسلمون ، فلمّا بات علي بن أبي طالب عليه السلام على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفديه بنفسه ، فيؤثره بالحياة ، أشاد الله تعالى بهذا الموقف التضحوي الفريد ، فأنزل:

 

(ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِي نَفسهُ ابتغاءَ مرضاتِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ)

 

تنمية الشعور الجماعي

نجد فيض من الاَحاديث التي تحثُّ الفرد على الانضمام للجماعة والانسجام معها ، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «يدُ الله مع الجماعة ، والشيطان مع من خالف الجماعة يركُضُ»

تغيير نظم الروابط الاجتماعية

 كان المجتمع الجاهلي يعتبر رابطة الدم والرحم أساس الروابط الاجتماعية ، فيضع مبدأ القرابة فوق مبادىء الحق والعدالة في حال التعارض بينهما ، والقرآن الكريم قد ذمَّ هذه الحمَّية الجاهلية صراحة :

(إذ جعلَ الَّذِينَ كَفرُوا في قُلُوبِهِم الحَمِيَّةَ حِميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ..)

 

وقد عملت العقيدة على إزالة غيوم العصبية عن القلوب ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من تعصّب أو تُعصّبَ له ، فقد خلع ربقة الاِيمان من عُنقه»

الحث على التعاون والتعارف

 نقلت العقيدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلى حالة التعارف والتعاون.

يقول تعالى :

(يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم مِن ذَكرٍ وأُنثى وجَعلنكُم شُعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكُم عند اللهِ أتقكُم...) .

 

 كما حثَّ الناس على التعاون:  

(وتعاونُوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاِثمِ والعُدوانِ..)

 

 وأسهمت مدرسة أهل البيت عليهم السلام في ترسيخ مبدأ التعاون والتكافل في أذهان الناس وسلوكهم ، فعلى سبيل الاستشهاد ، كان علي بن الحسين عليه السلام إذا جنّه الليل ، وهدأت العيون، قام إلى منزله ، فجمع ما تبقّى من قوت أهله ، وجعله في جراب ، ورمى به على عاتقه ، وخرج إلى دور الفقراء ، وهو متلثم ، حتى يفرقه عليهم ، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به ، وقالوا جاء صاحب الجراب

تغيير العادات والتقاليد الجاهلية

كان للعقيدة الاَثر البالغ في تغيير الكثير من العادات والتقاليد ، التي تُمتهن فيها كرامة الاِنسان ، وسعى صلى الله عليه وآله وسلم لاِشاعة وترسيخ عادات تربوية جديدة ، روي عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل.. » وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيثُ انتهى مجلسه »

 

go to top of page   4.  البناء النفسي

طمأنينة النفس

إنّ الاِنسان المتدين يجد في العقيدة اطمئناناً على الرغم من عواصف الاَحداث من حوله ، فهي تدفع عنه القلق والتوتر ، وتخلق له أجواء نفسية مفعمة بالطمأنينة والاَمل ، والقرآن الكريم يُنمّي هذا الاحساس في نفس المؤمن قال تعالى :

(.. وعَسى أن تكرهُوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم وعسى أن تُحبُّوا شيئاً وهو شرٌّ لكُم واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمونَ)

 

وأحاديث أهل البيت عليهم السلام تعمّق هذا الشعور في نفوس المسلمين ، فقد بعث أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً إلى ابن عباس « أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها»

البناء النفسي

صحيح أنّ الاِنسان العادي بطبعه يمتلكه اليأس والقنوط عند المصائب ، كما أشار القرآن صراحة لذلك بقوله :

(... وإن مسَّهُ الشرُّ فيئُوسٌ قنُوطٌ) ..

 

(ولئن أذقنا الاِنسانَ مِنَّا رحمةً ثمَّ نزعناها منهُ إنَّهُ ليئوسٌ كفورٌ) ،

 

ولكن الاِنسان المؤمن المتسلح بالعقيدة وقور عند الشدائد ، صبور عند النوازل ، لا يتسرب الشك إلى نفسه :

(.. لا ييئسُ من رَوحِ اللهِ إلاّ القومُ الكافِرُونَ)

 

go to top of page   5.  أساليب العقيدة في مواجهة المصائب

بيان طبيعة الحياة الدنيا التي يعيش فيها الاِنسان وتدعوا إلى الزهد فيها .

يقول الاِمام علي عليه السلام : «أيُّها الناس ، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، فإنَّها عما قليل تُزيلُ الثاوي الساكن ، وتفجعُ المترف الآمن.. سرورها مشوب بالحزن.. »

 

يقول الشيخ الديلمي : ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله :

«دارٌ بالبلاءِ محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعيش فيها مذموم ، والاَمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها...»

 

إنّ المصائب تستتبع أجراً وثواباً : الاَمر الذي يخفف من وقع المصائب على الاِنسان يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «المصائب مفاتيح الاَجر»

 

 إلفات نظر المسلم إلى المصيبة العظمى : وهي مصيبته في دينه ، مما يهوّن ويصغّر في نفسه المصائب الدنيوية الصغيرة ، وهي حالة امتصاص بارعة للضغوط النفسية تقوم بها العقيدة

وكان أبو عبدالله عليه السلام يقول عند المصيبة: «الحمدُ لله الذي لم يجعل مصيبتي في ديني ، والحمدُ لله الذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم ممّا كانت ، والحمدُ لله على الاَمر الذي شاء أن يكون فكان»

 

 تحرير النفس من المخاوف

وقال الاِمام أبو عبدالله الحسين عليه السلام لاَصحابه يوم عاشوراء :  صبراً ياكرام ! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدائم ،  فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟..

وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : «طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس»

 

 معرفة النفس

إنَّ هناك علاقة ترابطية وثيقة بين معرفة الله ومعرفة النفس ، ففي الحديث الشريف : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»

وبالمقابل فإنّ نسيان الله تعالى يؤول إلى نسيان النفس :

(ولاتكُونُوا كالَّذينَ نسُوا اللهَ فأنساهُم أنفُسَهُم..)

 

مما يمكن التأكيد عليه أنّ في النفس خطان متقابلان هما الخوف والرجاء ، والعقيدة تعمد إلى كلا الخطين ، فتبدد عن النفس كل خوف باطل وكل رجاء منحرف ، وبدلاً من ذلك تُنمّي الخوف من الله من جانب، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالى :

 

(... يحذرُ الآخرةَ ويرجُو رحمةَ ربهِ...)

 

  البناء الاخلاقي

العقيدة تشكّل مرتكزاً متيناً للاَخلاق ، لاَنّها تخلق الواعز النفسي عند الاِنسان للتمسك بالقيم الاَخلاقية السامية. قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعثتُ لاتُمّم مكارم الاَخلاق».

وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : «الخُلق الحسن نصف الدين ،

وقيل له : ما أفضل ما أعطى المرىء المسلم ؟ قال : الخُلق الحسن»

وقال أمير المؤمنين عليه السلام :  «عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلقه»

أنّ الاَخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للاِنسان همّ إلاّ مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكانت التقوى رادعاً داخلياً له عن ارتكاب الجرم .

الاَخلاق ضرورة اجتماعية ، فهي بمثابة صمّام أمان أمام نزعة الشر الكامنة في الاِنسان ، قال أمير المؤمنين عليه السلام :

«لو كنّا لا نرجوا جنّة ، ولا نخشى ناراً ، ولا ثواباً ولا عقاباً ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الاَخلاق ، فإنّها ممّا تدلُّ على سبيل النّجاح»

 

 أساليب العقيدة في بناء الاِنسان أخلاقياً

تحديد العقيدة للمعطيات الاَخروية للاَخلاق :  فمن اتّصف بالاَخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزيل والدرجات الرفيعة ، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الاَليم .

 قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ العبد ليبلغ بحسن خُلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة» .

وقال أيضاً : «إنَّ حُسن الخُلق يبلغ درجة الصّائم القائم»

 

 بيان العقيدة للمعطيات الدنيوية للاَخلاق: فمن يتّصف بالاَخلاق الحسنة ، يستطيع التكيّف والمواءمة مع أبناء جنسه ، ويعيش قرير العين ، مطمئن النفس ، هادىء البال ،

يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «حُسن الخُلق يثبّت المودّة» .

وقال الاِمام علي عليه السلام : «.. وفي سعة الاَخلاق كنوز الاَرزاق»

 

 تقديم التوصيات والنصائح

قال الاِمام علي عليه السلام : «.. روضوا أنفسكم على الاَخلاق الحسنة، فإنَّ العبد المسلم يبلغ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم»

وقال أيضاً موصياً: «.. عوّد نفسك السّماح وتخيّر لها من كلِّ خلق أحسنه ، فإنّ الخير عادة»

 

أُسلوب الاَُسوة الحسنة

 قال تعالى :

(لقد كانَ لكُم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةً..)

 

 لقد دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى التحلّي بمكارم الاَخلاق كالتواضع والجود والاَمانة والحياء والوفاء... وما إلى ذلك ، كما نهى عن مساوىء الاَخلاق كالبخل والحرص والغدر والخيانة والغرور والكذب والحسد والغيبة .

قال أبو عبدالله عليه السلام : «ألا أُحدّثك بمكارم الاَخلاق ؟ الصفح عن الناس ، ومواساة الرّجل أخاه في ماله، وذكر الله كثيراً»

 

و كان آل البيت عليهم السلام يتبعون أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، فعن الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال لرجل اغتاب رجلاً :   «يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها أدام كلاب النّار» .

 وقال رجل للاِمام علي بن الحسين عليهما السلام : إنّ فلاناً ينسبك إلى أنّك ضالٌّ مبتدع، فقال له الاِمام عليهما السلام : «ما رعيت حقّ مجالسة الرجل ، حيثُ نقلت إلينا حديثه ، ولا أدّيت حقّي حيثُ أبلغتني من أخي ما لست أعلمه !.. واعلم أنّ من أكثر عيوب الناس شهد عليه الاِكثار، أنّه إنّما يطلبها بقدر مافيه»

 

go to top of page   6. الخلاصة

على الصعيد الفكري: اعتبرت الاِنسان موجوداً مكرّماً ، أما الخطيئة التي قد يقع فيها فهي أمر طارىء يمكن معالجته بالتوبة ، وبذلك أشعرت الاِنسان بقدرته على الارتقاء ، ولم تؤيسه من رحمة الله وعفوه ، ثم أنّ العقيدة حررت الاِنسان من الاستبداد السياسي للحكام الوضعيين الظالمين ، كما حررته من عادة تأليه البشر ، وأطلقت حريته ، ولكن ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى ، كما ربطت الحرية الاِنسانية بالعبودية لله وحده ، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته .

 كما حررت الاِنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من حوله ، ومن الاَساطير والخرافات في الاعتقاد والسلوك .

 ومن خلال عملية تحرير الفكر ، قامت بعملية البناء ، فأعطت مكانة كبيرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقاً معرفية واسعة ، كما فتحت أمامه نافذة الغيب ، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضيقة ، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات الله الآفاقية والاَنفسية ، وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات الخلاصة

 

على الصعيد الاجتماعي: قامت العقيدة بدور تغييري كبير ، فبينما كان فكر الاِنسان الجاهلي منصبّاً حول ذاته ومصالحها ، غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة يضحي بالغالي والنفيس في سبيل مبادىء دينه ومصالح مجتمعه .

 وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص الاِنسان على مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعي للفرد نحو الآخرين .

 من جهة أُخرى ، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الاَفراد ، من روابط تقوم على أساس العصبية للقرابة ، أو على أساس اللون أو المال أو الجنس ، إلى روابط أسمى تقوم على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة والاَخاء الاِنساني.

 

على الصعيد النفسي: أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان للاِنسان ، مهما كانت عواصف الاَحداث من حوله .

 وقد اتّبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الاِنسان على حين غرّة ، ومن تلك الوسائل: بيان طبيعة الدنيا ، وأنّها دار محن واختبار ، مليئة بتيارات المصائب التي تهب على الاِنسان .

 من جانب آخر ، حرّرت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشلّ نشاط الاِنسان وتكبت طاقته وتجعله نهباً لعوامل القلق والحيرة كما شجّعت العقيدة الاِنسان إلى معرفة نفسه .

 

 على الصعيد الاخلاقي: قامت العقيدة بدور خلاّق في بناء منظومة الاخلاق للفرد المسلم، وفق أُسس دينية تستتبع ثواباً أو عقاباً ، وليس مجرّد توصيات إرشادية لا تتضمن المسؤولية.

 

رحم الله من قراء سورة الفاتحة تسبقها الصلاة على محمد وآل محمد

 

Back NextBack to HomePagego to top of page