Back Home Next

 

دور المرجعية الشيعية في التطورات السياسية والاجتماعية

أبان الاحتلال العثماني للعراق

من كتاب فيه مصادر مختلفه

 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

ridhaalattar@yahoo.com

 

عندما بدأت المرجعية مسيرتها الكفاحية في أوائل القرن التاسع عشر ضد الأحتلال العثماني للعراق كانت قد ورثت ارثا ثقيلا من التخلف والاستبداد.  هذا الإرث كان له دور كبير في صياغة مشروع حركة التغير المعاصرة بهدف اللحاق بركب الحضارة الأنسانية المتوثبة وقد تحدد شعار الحركة الأسلامية والوطنية في محاربة المحتل و نيل الاستقلال.  ولا شك إن المقاومة كان لها الحق المشروع للدفاع عن الدين والوطن والنفس وانها انطلقت من التكوين الحضاري الذاتي الأصيل ضد النهج القاسي للمحتل الهادف إلى تفكيك المجتمع العراقي طائفيا و عنصريا و تغريبه عن لغته وتراثه ليتسنى له السيطرة الكاملة على مقدراتة و ثرواتة بعد التحطيم الكامل لكيانة العتيد

 

go to top of page    لقد احتفظ العراق بالكثير من الخصائص التي ميزته عن باقي الأقاليم العربية كونه مركز الحضارات القديمة فجذوره ممتدة في أعماق التاريخ وأثارها شاهدة على ذلك كما أن له من الصلات والوشائح بالعرب في شبه الجزيرة العربية وبغيرها ما ليس للأقاليم الأخرى فالتاريخ المجيد يخبرنا ان هجرة الأكديين من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين بدأت قبل أربعة ألاف سنة قبل الميلاد والذين امتزجوا مع السومريين واسسوا دولة بابل ثم تبعهم الاشوريون والكلدانييون فالأحداث التاريخية تؤكد حقيقة انتقال الجماعات البشرية من المناطق الصحراوية القاحلة في بلاد العرب إلى المناطق الخصيبة في حوض وادي الرافدين بقي مستمرا حتى أواخر القرن العشرين. 

 

لكن بعد سقوط الدولة العباسية على يد المغول عام 1258 عمت الفوضى واستمرت. وفي عام 1533 احتل الأتراك العراق واستعملوا مع ابنائه سياسة العنف والتعسف ولم يفسحوا لهم المجال ان يعرفوا ان لهم حقوقا في الحياة فقد مارسوا البرنامج الاستعماري في فرق تسد وبذلك شجعوا التفرقة الطائفية والعنصرية، كما تميز حكمهم بالظلم الاجتماعي الصارخ تجاه جميع قطاعات الشعب وخاصة الطائفة الشيعية منها، لذا كان طبيعيا ان يتجاوب افراد العشائر مع مواطنيهم من الشيعة بعد أن وجدوا فيهم نصير الدرب في النضال في سبيل التحرر من نير الأحتلال الذي فرض على العراقيين سياسة التتريك بغية ابعادهم عن لغتهم الأم وعدم استعمالها في المؤسسات الحكومية بهدف إزالة الإرث الحضاري من أذهانهم لكن الوعي العراقي اثبت انه اقوى من مخططاتهم وفشلت سياسة التتريك قبل أن ينتهي حكمهم البغيض الذي دام زهاء أربعة قرون بخمسة سنوات فقط سمحوا للشيعة لأول مرة افتتاح مدرسة ابتدائية في بغداد أسموها الجعفرية(1).

 

go to top of page    صرح السياسي العراقي كامل الجادرجي "رغم أن الطائفة الشيعية تشكل أغلبية سكان العراق الا ان السلطان العثماني اعتبرهم أقلية ونظر إليهم بعين العداء ولم يفسح لهم مجال الثقافة وحرمهم من التعليم ومن المناصب الحكومية."  في الواقع إن ما حدث في الاحتلال العثماني للعراق كان بمثابة نكسة حضارية خطيرة بعد أن غرب عهد الأزدهار الحضاري الذي نعم به العراقيون ايام مجد الحضارة العباسية التي توجت بالعصر الذهبي أيام الخليفة المأمون الذي جعل من بغداد منارا للأشعاع الثقافي المنير الذي لم يقتصر على بلدان المنطقة فحسب إنما وصل شعاعه إلى البلدان الأوربية ودخل جامعاتها.  ولا يغيب عن البال انه عندما قدم العثمانيون إلى العراق كانوا بدوا حديثو العهد في تشكيل كيان دوله، ولم يكن لهم علم بصناعة ولا بزراعة ولا بتجارة ناهيك من الفنون والآداب. 

 

go to top of page    أقول انه من سخرية القدر حقا ان العرب الذين جاؤا بالأسلام صار العثمانيون هم خلفاء الإسلام، فقد ابتلعوا العرب واستعبدوهم لا بل أذلوهم، كان على العربي المسلم في بلده أينما كان أن يرفع يده للدعاء إلى السلطان العثماني أيام صلاة الجمعة في الوقت الذي كان هذا السلطان في معظم الحالات ابن جارية أؤتي بها من بلاد غريبة لا تبت بالإسلام ولا بالعرب بصله. 

 

أعزائي الحضور بعد احتلال الترك للعراق تركزت انظارهم بالدرجة الأولى على مدن العتبات المقدسة بوصفها نقاط تماس ثقافي ديني مذهبي بين الإمبراطورية العثمانية السنية والإمبراطورية الفارسية الشيعية وهكذا تحول العراق إلى ساحة صراع وحروب بين هاتين الدولتين الجارتين، وقد أطلق كل من السلطان التركي والشاه الفارسي على نفسه لقب عاهل الإسلام. 

 

go to top of page    لقد جلب الأحتلال الصفوي للعراق والاسترداد العثماني الكثير من الويلات والمصائب خاصة بما يتعلق بالمرافق الحيوية للبلاد من زراعية وصناعية وتجارية، ناهيك عن انتشار الأوبئة والكوارث الطبيعية، فقد عم الدمار شتى مناحي الحياة.  وضمن الأعمال الاحترازية قامت السلطات التركية بتهجير عوائل من عشائر العبيد وأسكنتهم في منطقة الأعظمية في بغداد لحماية مرقد الأمام ابو حنيفة من اعتدأت الفرس(2)

 

لقد شجع موقع العتبات المقدسة سكان المناطق القريبة للهجرة إلى العراق.  ففي القرن السادس عشر كان المجتمع العراقي مجتمعا عربيا خالصا حيث كان للتأثير الاجتماعي الفارسي على المجتمع العراقي شأن ضئيل.  فقد جاء التجار والزوار والطلاب الإيرانيين إلى العراق أول مرة خلال فترة الأحتلال الصفوي السابق.  لكن مع ذلك بقي من الصعب على العثمانيين ممارسة السيطرة الفعالة على مدينتي كربلاء والنجف بحكم موقعهما الاستراتيجي. 

 

فقد كانت المرجعية الشيعية تمارس نشاطا دينيا وسياسيا واسعا يتخطى حدود العراق بكثير، فقد أفلتت المدن المذكورة من السيطرة العثمانية، بعد أن برز كيانها شبه المستقل بوصفها مركز الثقل الديني للمرجعية حينذاك وكان لها صدى عالمي مؤثر سواء عندما كان مقر المرجعية في النجف الأشراف بشكل دائم أو في سامراء المقدسة بشكل مؤقت، ففي كل الحالات كانت المرجعية تعتبر من ابرز المعالم الحضارية والفكرية في العالم الإسلامي لقد كان ضمن مسوؤلياتها الأكادمية التبني والأشراف على اكثر من عشرين مدرسة دينية تضم اكثر من عشرة الاف طالب عراقي وأجنبي. 

 

وقد ظلت هذه المدارس تمون من قبل مؤسسة خيرية في دولة اوذة الشيعية في الهند وكانت الأموال تصل إلى يد كبير مجتهدي الطائفة في النجف الأشرف عن طريق القنصلية البريطانية في العراق، وقد استمرت هذه الهبات عقودا من الزمن قبل ان تنقطع نهائيا(3).  والى جانب ذلك كانت المرجعية تقود حملات نشر عقيدة التشيع بين ابناء العشائر النازحة حديثا إلى العراق بواسطة شبان خريجي المدارس الدينية.  والغريب في الأمر أن موقف الحكومات العثمانية ازاء هذا النشاط الدووب كان متسما بالامبالات(4).

 

go to top of page    لقد كان موقع النجف الأشرف موقعا متقدما لأحتوائها على مرقد الأمام علي علية السلام فكان مركز جذب قوي لكافة مسلمي العالم، وفية وادي السلام البقعة المفضلة للدفن عند المسلمين (5).

 

لكن حظوظ النجف قد تغيرت بمرور الزمن بسبب شحة المياة وندرة الآبار.  لقد كان في المدينة خلال القرن السادس عشر اكثر من ثلاثة الاف دار سكن لكن نتيجة الجفاف الدائم ترك السكان مناطق سكناهم حتى لم يبقى فبها سوى ثلاثين دارا اقتصرت للسكنى على موظفي الدولة كانت مشكلة شحت المياه من اعقد مشاكل النجف على امتداد تاريخها الطويل وبعكس ذلك كانت مدينة كربلاء تمتاز بخصوبة أراضيها، تحيطها البساتين وأشجار النخيل من جهاتها الثلاثة تجتذب اليها سكان المناطق المعرضة للجفاف، كل ذلك بفضل جدول الحسينية احد فروع نهر الفرات.

 

go to top of page    تحسنت الحركة الاقتصادية وانتعشت الظروف المعاشية بعد شق قناة الهندية عام  1803 وتمكنت المدينة إن توفر لسكانها ولزوارها الماء العذب.  كما كان لهذا المشروع قوة دفع هائلة في إقامة الصرح الباهر للحركة الدينية والأجتماعية والسياسية الرائدة فضلا عن التأثيرات الأيجابية للعلاقات الأجتماعية لأهالي النجف على كافة عشائر العراق وبالأخص القريبة منها. 

 

لقد كان القسم الأعظم من سكان المدينة يتالف من العرب الأقحاح نتيجة موقعها الكائن على حافة الصحراء، فلا عجب إن بعضا من عوائلها انحدرت اصولها من عشائر عربية هاجرت قديما من شبه الجزيرة العربية إلى العراق كعائلة كاشف الغطاء من الحجاز وعائلة ابو طبيخ من الأحساء وعائلة الزوين من مكة وعائلة الياسري من المدينة المنورة وقد تمكنت عشائر الزغرت والشمرت ان تتحد مع بعضها وتسيطر على مدينة النجف وتطرد حاكمها العثماني منها وتفرض الأمن والنظام وتديرها طبقا لمضمون دستور حي البراق.  ثم تولى الشيخ كاظم صبي مسؤولية إدارتها طيلة فترة كيانها السياسي المستقل. 

 

وقد استمرت هذه السلطة الوطنية المحلية تؤدي مهامها إلى أن سقطت على أيدي القوات البريطانية عام 1918 (6).  والجدير بالذكر إن الشيخ كاظم الذي قاوم سلطة الاحتلال الجديد كان ضمن مجموعة الثوارالوطنين الثمانية عشرة الذين اقدمت السلطة العسكرية على شنقهم في الكوفة أمام أعين زعماء عشائرهم بتهمة اشتراكهم في قتل الحاكم العسكري الانجليزي مارشال.  والملاحظ انه كان للمرجعية الدينية حضور دائم في مثل هذه المواقف الساخنة فكانت سباقة في إثارة المشاعر الوطنية واستنهاض روح الفداء ضد الوجود الأجنبي في البلاد وقد أثمرت مساعيها في جعل انتفاضة النجف الأشرف كشرارة حرب انطلقت في الرميثة بعد عامين فكانت ثورة العشرين العارمة.

 

go to top of page    لقد عجزت الحكومات العثمانية في تاريخ حكمها الطويل من كبح جماح العشائر العراقية التي كانت ساخطة على سياستها الأستعمارية والتي غالبا ما كانت كامنة في الأسلوب القاسي في جباية الضرائب إلى درجة كان الأتراك لا يترددون من استعمال اساليب التعذيب بغية استحصال المال من العراقين الفقراء، إلى جانب المشاكل الاجتماعية الناجمة من تطبيق قانون التجنيد العثماني المعروف بالإجباري، لذا كانت الصدامات المسلحة تظهر بين الحين والأخر بين القوات النظامية والمكلفين الهاربين ولا يخفي دور رجال المرجعية في حماية هؤلاء الشباب وتأجيج الصراعات وكان نشاطهم السياسي لا يتوقف حتى في حالات الهدوء النسبي حيث كان الشباب الغيارى يخرجون إلى أوساط العشائر ويتحدثون إلى أبنائها عن الوضع السياسي الراهن ويذكرونهم بظلم الأتراك ونهبهم ثروات البلاد.

 

لقد كانت فترة حكم الوالى العثماني المملوك داود باشا من اسوأ فترات الأحتلال التركي للعراق فقد اضطربت الأوضاع السياسية واحتدمت بين جند الغزاة وعشائر الجنوب بعدما عم السخط ارجاء البلاد مما حدى بالباب العالي في اسطنبول إلى إرسال العسكري علي رضا ليغتال الوالي داود باشا وينهي به سلطة المماليك في العراق.

 

 go to top of page   كانت السلطة العثمانية في بغداد تحسب للمرجعية في النجف الأشرف ألف حساب كونها كانت تتمتع بكيان ديني و سياسي واسع يحظى بتأييد رموز إسلامية عالمية معروفة ولذلك انتهجت حكومة الأتراك سياسة التجاهل والتغاضي بشكل عام تجاه السياسة العامة للسلطة الدينية في النجف الأشرف.  لقد كثرت هجرات القبائل العربية إلى بلاد الرافدين خلال القرن التاسع عشر مما سببت ارتفاع نسبة التشيع في العراق إلى 56 في المائة عام 1932 ومع ذلك كان لا يزال نصف سكان العراق عشائر رحل، لكن هذه العشائر دخلت في اتحادات سياسية شبه مستقلة بعد أن استوطنت (7).

 

لقد كان جل اهتمام الحكومات العثمانية منصبا على سياسة توطين العشائر الرحل وتشجيعهم على ممارسة الزراعة بهدف الحصول على عوائدها الضريبية وتجنيد أبنائهم بعد معرفة مقر سكناهم، وقد أثمرت جهودها بعد مجيء الوالي مدحت باشا الذي نجح في سياسة التوطين بعد ما طبق قانون الأرض العثمانية موفرا للفلاحين ضمان حيازة الأرض يمنحون بموجبه سندات طابو وبهذه الوسيلة تمكنت سلطة الاحتلال من ربط افراد العشائر بالأرض(8).

 

go to top of page    أما عن تاريخ عشائر العراق فقد ذكرت في بداية حديثي أن القبائل الأكدية نزحت من بلاد العرب إلى ارض الرافدين قبل غيرها ثم تبعتهم القبائل الأخرى واستمرت حتى ظهور الأسلام وبعده ففي بداية القرن الرابع عشر هاجرت عشائر الخزاعل وبنو لام فروع من قبائل الطائية وكذلك عشائر فرازه وعقيل ونمير وغشير (9) ثم توالت موجات الهجرة تباعا وشملت عشائر المنتفك المنحدرة من القبائل العدنانية وعشائر الزبيد المنحدرة من القبائل القحطانية وأما قبائل ربيعة وقبائل العبيد وقبائل الحميرية فقد هاجروا في صدر الإسلام وعبر القرون المتعاقبة نزحت عشائر شمر طوقه وعشائر صائح من الحجاز وعشيرة بني تميم نزحت من نجد وبعد أن التحق بهم كل من عشيرة شمر الجربه وعشيرة عنزه والظفير وحرب والجبور، اكتسب العراق خارطته السكانية بشكلها النهائي (10).

 

لقد كانت الأسباب الرئيسية للهجرات العربية خلال القرن التاسع عشر تختلف عن سابقتها التي كانت تتمثل بقسوة المناخ وما رافقه من الجفاف وشحة الغذاء لقد كانت الأسباب هنا تكمن في ظهور الوهابية في الحجاز وهجماتهم على السكان المحليين مما اضطروا للهروب إلى خارج مملكتهم والاستقرار في ربوع وادي الرافدين. 

 

go to top of page    لم تكتفي الوهابية بمهاجمة مواطنيها إنما كانت بين الحين والأخر تشن هجماتها الوحشية على مدن العراق الحدودية.  فقد كانت ضحايا عشائر المنتفك وسكان مدينتي كربلاء والنجف تعد بالآلاف.  بالإضافة إلى تدمير المعالم والممتلكات، ولا ينسى العراقيون مجزرة كربلاء عام 1802 عندما هجم الوهابيون على المدينة بصورة فجائية وقتلوا الناس في الشوارع وفي داخل البيوت وخربوا قبة الأمام الحسين وسرقوا خزائن المرقد ومجوهراتها ولم يتركوا المدينة الا بعد ان عاثوا فيها الفساد والدمار.  وقد كان لهذا العمل الإجرامي صدى عالمي سيء خاصة وان العالم الخارجي كان يعتبر الوهابين مسلمين. 

 

وفي عام 1880 شهدت زيارة الأربعينية في كربلاء مظاهرات جماهيرية صاخبة لعموم سكان العراق يتقدمها رجال الدين الأجلاء قدموا من الحوزة العلمية في النجف الأشرف احتجاجا على السلطات العثمانية لتقاعسها في صد الغزوات الوهابية المتكررة على مدن العراق.  كما هزت هذه الاعتداءات حماس الغيارى من ابناء الشعب العراقي وهججت مشاعر الاستياء لأقطاب المرجعية الدينية الذين شدوا العزم وارسلوا اعداداً كبيرةً من الشباب خريجي المدارس الدينية إلى المناطق الوسطى والجنوبية من العراق بهدف تذكير افراد العشائر بمعاناة الشعب من جور الأحتلال واثارة روح الحماس الوطني في نفوسهم وتحريضهم بأسلوب أو بأخر على التمرد والعصيان إلى جانب السعي في نشر عقيدة التشيع بين ابنائها وتشجيعهم لزيارة مدن العتبات المقدسة بهدف التعرف على المجتمع الحضري والتفاعل مع ثقافته الاجتماعية طالما كان لهذة الزيارات من تأثيرات ايجابية على الوضع الاقتصادي لهذه المدن. 

 

go to top of page    لكن بعد مرور قرنين من الزمن وتحديدا في أواخر القرن العشرين بدا هذا النشاط في نشر عقيدة التشيع يتضائل تدريجيا إلى إن توقف نهائيا بعدما شملت حملات التوعية معظم القبائل العربية التي نزحت إلى العراق واستقرت فيه، علما ان عشائر البو محمد كانت اخر الهجرات التي قدمت من الصحراء الغربية، فقد استوطنت في لواء العمارة واتخذت الأهوار مستقرا لها فسكنوا اكواخ القصب ومارسوا زراعة الرز وتربية الجواميس وسموا بالمعدان (11).

 

لقد كان تحويل جماعات العشائر من حياة الترحال إلى حياة الزراعة قد عطل النظام العشائري ككل واوجد أزمات حادة أجبرتهم على إعادة النظر في بناء هويتهم وتحديد موقعهم من الخارطة الأجتماعية لبيئتهم الجديدة.  ومما أثار الدهشة أن معظم إفراد العشائر قد احجمت على اعتناق المذهب الجعفري في بادئ الأمر إلا بعد عقود من الزمن، كما كانت سعة التشيع تتفاوت من منطقة إلى أخرى طبقا لطبيعة الجغرافيا، فهناك مناطق الأهوار ومنطقة دجلة وحوض نهر الفرات، كما كانت تتفاوت ودرجة احتكاك افراد العشائر بسكان المدن علما ان معظم العشائر كانت معتزة بأعرافها وتقاليدها القبلية التي نشؤا عليها والتي كانت عبارة عن حزم من الفضائل الأخلاقية يتحلى بها البدوي القادم من الصحراء (12) .

 

أعزائي لا يخفى عليكم ان الهجرات العربية التي بدأها الأكديون في الماضي السحيق واستمرت عبر دهور من الزمن والتي أخذت بعد ظهور الأسلام طابع الهجرات الجماعية قد انتهت في أواخر القرن العشرين بعد ان كونت البنية التحتية الحقيقية لسكان العراق الحديث وان الأدعاء بحداثة شعب العراق وكونه منحدر من اصول فارسية ادعاء باطل تدحضه الثوابت التاريخية، وان الفرس الذين غزوا العراق عام 1503 لم يتمكنوا من المكوث فيه اكثر من ثلاثة عقود فقد اخرجوا من العراق بعد ان استرد العثمانيون سيطرتهم على العراق ثانية عام 1533 (13).  والذين يدعون عكس ذلك غرضهم الإساءة إلى تاريخ الشيعة في العراق. 

 

وفي هذا السياق استذكر التصريح الذي أدلى به صدام حسين في المؤتمر الذي انعقد في الطائف عام 1981 جوابا على سؤال الصحافة العالمية حول رأيه في المعارضة العراقية آنذاك فقال بالنص هذه المعارضة شيعية وإنها صنيعة فارسية. 

 

لقد استوقفني هذا التصريح المرتجل من قبل رئيس النظام العراقي السابق وذكرني بزيارتي الاستطلاعية لمعتقل بوخند والد في ألمانيا في خمسينيات القرن الماضي ضمن مجموعة أطباء أجانب، هذا المعتقل الذي تحول بعدئذ إلى متحف كان النازيون يمارسون فية جريمة حرق اليهود بعد قتلهم بالغاز خلال الحرب العالمية الثانية.  وبينما كنت استعرض الجداريات اشار عليً الدليل السياحي إلى مقطع من خطاب هتلر هذا نصه  "لا تقرر الهوية الشخصية للمواطن الألماني دين صاحبها إن كان يهوديا ام لا إنما أنا الذي أقرر ذلك". 

 

لقد اتضح لكم سيداتي وسادتي كيف أن قلب الحقائق هو نزعة متأصلة عند جميع الطغاة. 

 

لنواصل حديثنا ونقول انه من الطرافة بمكان ان نعلم ان افراد العشائر العربية التي هاجرت إلى العراق كانت ترفض زيارة العتبات المقدسة في البداية ولم تكن راغبة فيها لا وحتى لم تعلق عليها اهمية تذكر(15)  فصفات عالم الدين وعباداته وزهده و تقواه لا تهمه ولا تحرك اوداجه بل تهزه تقاليده وقيمه التي نشأ عليها في البادية كالفروسية والشجاعة والنخوة ونكران الذات لذا كانوا يعظمون العباس اخو الأمام الحسين بصفة خاصة لأنه كان يتحلى بصفاتهم وكانوا ينعتونه بأبو راس الحار وفي هذا السياق استذكر ايام العهد الملكي في أربعينيات القرن الماضي عندما كانت شرطة المحاكم يجلبون المتهمين بجرائم القتل إلى صحن العباس عليه السلام في كربلاء بغية إجبارهم على القسم فلم تمضي لحظات وإذا بهم ينهارون ويعترفون بالجريمة التي ارتكبوها بعد ما كانوا قد اقسموا اليمين القانوني على القران الكريم مرارا. 

 

go to top of page    كانت مدن العراق الحدودية كربلاء والنجف مراكز اقتصادية وأسواق موسمية صحراوية في بيع التمور والحبوب والأقمشة فكان البدو يأتون من البادية ومن الجزيرة حيث يقيمون مضاربهم في ربوع المناخة قرب النجف يتبادلون فيها السلع التجارية.  وكانت حقول الرز تمتد على طول قناة الهندية ومناطق حوض الفرات الأوسط خاصة طويريج والكوفة والكفل ومنطقة الشامية وكانت النجف مركز تجمع الصوف وجلود الماشية فكانت المدينة تجتذب تجار السلع من بادية الشام ومن الجزيرة حيث كانت تجري فيها المعاملات التجارية (16)

 

كانت الرحلات الموسمية تدور حول فصلين في السنة، ففي موسم الأمطار كانت العشائر تتجه نحو السخره في الصحراء التي تبدأ في أبريل إلى أكتوبر وهذا النشاط الاقتصادي كان يتزامن مع موسم حصاد القمح والشعير في جنوب العراق خلال شهر ابريل ونيسان، كما غدت مدينة الحلة هي الأخرى أسواقاً عشائرية واسعة لتبادل وبيع السلع التجارية فكانت مناسبات مؤاتية للحديث في قضايا سياسية واجتماعية وأدبية تذكرهم بسوق عكاظ قبل الإسلام.

 

تشير السجلات الرسمية إن نسبة الاستقرار للعشائر الرحل في الريف العراقي عام 1867 كانت 47% لكنها ارتفعت عام 1905 ووصلت إلى 72% اى بزيادة 33% خلال أربعين عاما،  وكانت نتيجة هذه الزيادة في الكثافة السكانية ظهور أكثر من عشرين مدينة في وسط وجنوب العراق، وكانت مدينتي الناصرية والعمارة أسرعها نموا.

 

وهكذا طرأ تغير جوهري على النسيج الاجتماعي للمجتمع العشائري فقد كانت حياة البدو في الزمان الأول متسمة بالتنقل الدائم أصبح الآن مرتبطا بالأرض وبحكم القانون لا يسمح له إمكانية تغير سكناه، وقد أثار هذا الظرف الجديد نزعات حادة بين رجال العشائر خاصة تلك التي تتعلق بشأن توزيع المياه ومقدار حصتهم منها ومدى موقعهم من النهر وبعدهم عن المنبع.  لقد أدى ممارسة العشائر المتوطنة لحرفة الزراعة إلى تنوع الاقتصاد الوطني وتطور أفرادها ثقافيا بعدما أصبح من الميسور لعوائل العشائر من إدخال أبنائهم إلى مدارس الريف.   لقد أصبح لزاما على شيخ العشيرة أن يأخذ على عاتقه مسؤوليات رسمية بعدما صار حاملا لصك ملكية الأرض، فكان عليه أن يجبي الضرائب ويحافظ على الأمن في منطقته ويمارس التحكيم في النزاعات وينظم أعمال السخره ويشرف على توزيع الماء بصورة مرضية وبالتالي يمثل عشيرته أمام الحكومة في بغداد (17).

 

go to top of page   لقد أدى تطوير النظام العشائري إلى تقليص سلطة الشيوخ وظهور السراكيل الذين كان دورهم كمراقبين عمل وكانوا وسطاء بين مالك الأرض والفلاحين وكانت وظيفتهم بالدرجة الأولى تنحصر في إبقاء الأرض مزروعة ليتسنى تحصيل الفوائد للملاك.

 

إلى جانب هؤلاء كانت هناك فئة أخرى يطلق عليها اسم السادة ينتشرون في المناطق العشائرية لهم منزلة دينية مرموقة كون أن نسبهم يرجع إلى أسرة النبي الكريم على حسب قولهم.  وقد تعزز موقعهم عندما عملوا كأولياء.  وكان بعضهم يدعي امتلاكهم قوى خارقة لعلاج الأمراض وكان لدعائهم وزن معنوي عند سكان الأهوار وكانوا يحضون بقدسية بين رجال العشائر الذين كانوا يقسمون الإيمان بأسمائهم وكانت منزلتهم العليا تتجلى في حقيقة إن دية السيد القتيل هي ضعف دية الشخص الاعتيادي.  وكان السادة يمنحون موافقتهم في الأعراس والختان ومراسيم الجنازة وكان هؤلاء هم الوحيدون الذين يقرؤون ويكتبون حينذاك وكانوا بمثابة همزة وصل مع العالم الخارجي.

 

كما كانت هناك فئة ثالثة يدعون با لمؤامنة تدخل في الهيكل التشكيلي للمجتمع العشائري وكانوا يرسلون عادة من قبل الحوزة العلمية في النجف الأشرف.  كانوا خريجي المعاهد الفقهية مفوضين في تسوية أمور الزواج والطلاق والميراث وكانوا يقيمون المراسيم الدينية ويقودون المواكب الحسينية و يعتقد أنهم ادخلوا زواج المتعة وبذلك أتيحت الفرصة لشيوخ العشائر الاقتران بعدد من الزيجات. 

 

كان من الملاحظ انه بحلول القرن العشرين كانت العشائر المستقرة ما زالت منقسمة على أسس طائفيه، فعشائر المنتفك قد تشيعت بينما عشائر الشحيم قد استثنت، أما عشائر الفراعنة والزوابع وتميم فقد تفرقت بين شيعية وسنيه، أما عشائر الجبور في حوض الفرات فقد تشيعت بينما عشائر جبور دجلة احتفظت بمذهبها السابق. 

 

لقد فسر المراقبون دوافع اقبال بعض الأفراد على اعتناق المذهب الجعفري طوعا هي تهربهم من تبعات قانون التجنيد العثماني الذي كان يعرف بالسفربر الذي كان المكلف حينذاك اذا سحب في حملة عسكرية نادراً جداً ما يعود إلى أهله وتخلصا من تداعياته لجأ اعداد كبيرة من العراقيين إلى القنصليات الإيرانية واكتسبوا جنسيتها.  هؤلاء عرفوا بعد اجيال بالتبعة (18).

 

وقد يكون الباعث في كسب الفرد عقيدة التشيع هو النزعة الفطرية في التمرد ضد سلطة الاحتلال التي تعتنق مذهبا آخر، فكان طبيعيا أن يتجاوب أبناء العشائر مع الأسلام الشيعي طالما وجدوا فيه ما يجذبهم إلى الصف المعادي لسيطرة القوة الأجنبية (19)

 

وأخيرا قام أصحاب النقل والقلم بتعديل الشعائر المذهبية وإضفاء الطابع

الدرامي بشكل ينسجم مع معايير العرف والذوق العشائري، وبذلك بدأ أبناؤها يستسيغون الأهازيج الشعبية تدريجيا تلك التي تشيد بالمواقف الخالدة التي تجلت في شخص الأمام الحسين واهل بيته واصحابه عليهم السلام يوم عاشوراء في الأقدام والشجاعة والفداء مع تسليط الضوء على شهامة اخيه العباس وكيف ضحى بحياته في سبيل جلب الماء لعطاشى مخيم احفاد رسول الله. 

 

لم تقتصر القصائد الحسينية في مثل هذه المناسبات على ابيات الرثاء فحسب انما تجاوزتها إلى قصائد سياسية حماسية جياشة، تلهب في نفوس العراقيين الوطنيين الغيارى وفي رجال الدين الأبرار روح الحمية في سبيل تحرير بلدهم من نير الاستعمار.  وكان الشعب يشترك ويشارك هذه المسيرات الدينية السياسية بكل أطيافه بصرف النظر عن مذاهبه وأديانه فكان للمسيحيين في الناصرية ولليهود في العمارة في القرن الماضي حضور مشهود، كان ذلك بدافع شعورهم الفطري بالمواطنة وبانتمائهم للعراق الوطن. 

 

go to top of page    ختاما أقول أن عقيدة التشيع ظهرت اول مرة يوم وفاة النبي الكريم في المدينة المنورة ومنها انتشرت إلى أقطار العالم حسبما يذكره المؤرخ الانجليزي انتوني نتنج في كتاب العرب.  وعموما كانت المشاعر الإيمانية بين شيعة العراق وسنته تتسم بالتآلف والتكاتف منذ صدر الأسلام وان التاريخ يشهد دوما المواقف البطولية للعراقيين الذين كانت المحن تدفعهم إلى الاتحاد للوقوف في وجه الأعداء في سبيل الدفاع عن سيادة الوطن وان حادثة جسر الأئمة قد توجت هذا الاتحاد الجليل في معاضدة أهالي الأعظمية في إنقاذ أرواح أخوانهم الشيعة، هذا التحلي في اندفاعاتهم وتضحياتهم سوف لن ينساها التاريخ.

 

أما على الصعيد الاجتماعي فأقول انه من النادر ان يكون للمجتمع العراقي نظير بين أمم العالم من حيث قوة التماسك في نسيجه الاجتماعي وترابطه العضوي فالعائلة العراقية تطفح بروح التناغم والمحبة بين أفرادها رغم التنوع المذهبي والتضادد الفكري فيها.  أما من الناحية الدينية يكفي أن نستمع إلى هذه القصائد لمختلف المذاهب الإسلامية فهذا حمود الورودي يصدح في محافل التكية منشدا

 

 كن شفيعي يا إمام الحرمين

 

يا رسول الله يا جد الحسين

 احمد المختار مولى الثقلين

 

من له جد كجدي المصطفى

 

وهذا ابراهيم الوائلي ينشر صوته في المساجد قوله :

 

لا تقل شافعية زيديه

 

لا تقل جعفرية حنفية

وهى تأبى الوصاية الأجنبية

 

جمعتنا الشريعة المحمدية

 

أعزائي أليس هذا كله تعبير واضح وملموس عن عمق المشاعر في الألفة بين العراقيين والسلام عليكم. 

 

المصادر

1.                      دكتور على الوردي في لمحات من تاريخ العراق الحديث

2.                      المصدر السابق

3.                      المصدر السابق

4.                      جعفر محبوبة تاريخ النجف 1965

5.                      جعفر الخليلي في العتبات المقدسة

6.                      علي الوردي في لمحات من تاريخ العراق الحديث

7.                      عبد الله النفيسي تاريخ الشيعة في العراق 1995

8.                      سليم درنجل التركيب القانوني للدولة العثمانية

9.                      عبد الأمير الرفيعي العراق بين سقوط الدولة العباسية والدولة العثمانية بغداد 2005

10.                 حنا بطوطه المجتمعات القديمة وحركات الثورة في العراق برستون 1982

11.                 الكركوكلي دراسات في عشائر العراق

12.                 محمد رضا المظفر حفاظ القبائل العربية على تقاليدها

13.                 إسحاق النقاش شيعة العراق بيروت 1996

14.                 فرهاد إبراهيم الطائفية والسياسة في العالم الإسلامي القاهرة 1996

15.                 احمد فهمي في باب الأخبار بغداد 1946

16.                 مكي جميل البدو والقبائل الرحل في العراق

17.                 شالس عيسوي تاريخ الاقتصاد في الشرق الأوسط شيكاغو 1976

18.                 الألوسي في دعاية الرفض

19.                 رأى شخصي لكاتب المقال

  

 

Back Home NextBack to Subject-Pagego to top of page